q

عنوان المقال، سؤال قد تبدو الإجابة عنه نمطية، أو معروفة مسبقا، فعندما نوجّه مثل هذا السؤال الى المسؤولين عن الثقافة، وزير الثقافة مثلا، أو رئيس احدى المنظمات الثقافية، سوف يقول، إن اهمال الابداع والثقافة تعني إهمال التطوَّر في مجالات الحياة كافة، وهو جواب واقعي ودقيق، ولكنه لن يختلف عن الاجابة التي نحصل عليها من عامة الناس، فالواقع يؤكد أن الناس بمختلف المستويات يعرفون أن الثقافة والابداع هما عصب الحياة، وهما ركيزتان لا يمكن أن ينهض من دونهما الانسان ولا المكان.

حتى لو كان شكل العمارة جيدا، لكنه عندما يكون مفتقرا لروح الابداع والاصالة، فإنه يبدو بالغ الخواء، ولن يكون له حضوره وتأثيره على المجتمع من حيث تحفيز محصلات التطوير والتجدد، لذلك يحتاج العمران المادي الى الابداع الفكري، وعندما يتداخل الاثنان (التفرد المادي والابداعي)، فإن التطور والتفرّد سوف يكون الحصيلة الأكيدة، لذلك نلاحظ أن البلدان التي تعي دور المثقف وقدرته على تطوير منظومة الفكر والسلوك معا، ستعمل على نحو جاد من اجل توفير متطلبات الابداع للمثقفين، واتاحة الظروف اللازمة لهم لكي تتحول افكارهم الى مناهج عمل تطبيقية في ميادين الحياة من اجل تطوير المجتمع، ومن الملاحظ ان الدول الغربية على سبيل المثال تهتم كثيرا بالحقول والعلوم الانسانية، فيما يهتم الآخرون الاقل تطورا ونحن منهم، بالمناهج العلمية كالطب والهندسة وما شابه، متناسين ان العلوم الانسانية والفكر عموما يمثل حجر الزاوية في تطور عقلية الانسان وتجاربه العملية، حيث يندمج الابداع بالنسق العملي لتكون النتيجة في صالح التطور البشري.

أما من هو منتِج الثقافة، وأين يكمن الابداع، فالحقيقة أن جميع العقول التي تترك بصمتها في تطوير الحياة، هي مصدر التفرّد، وهي التي تمثل حالة الارتقاء والتميز، وقد يعود هذا العقل الى مفكر او رجل دين او فنان أو اي عقل بمقدوره ان ينتج الابداع والتجدد، وحتما سوف يكون للمثقف دوره الواضح في هذا المجال، لذا لا بد من اتاحة الفرصة كاملة امام المثقف، واهم الجوانب الحرية والرعاية والاهتمام، فالعقول النادرة ينبغي ان تلقى الاهتمام الذي يوازي قدراته وتميزها، وطالما أن المثقف والحرية أحدهما قريب من الآخر الى درجة التشابه والتداخل التام، وغياب أحدهما يعني ضعفا وتراجعا وربما تدميرا للآخر، فهذه هي مهمة الدولة والجهات المعنية التي ينبغي ان تحرص على توفير هذا الاستحقاق، وعندما نقول أن الحرية والثقافة ينبغي أن لا تبتعدا عن بعضهما، فإن هذا الكلام بديهي، لا أحد يختلف عليه، ولكن نعيده هنا من باب التذكير، لأن المثقف هو وسيلة وغاية المؤسسة او المنظمة الثقافية، بمعنى ان التجمع الثقافي أيا كان الاطار الذي يتخذه هو حاصل جمع المثقفين، وهنا يُثار التساؤل التالي وهو يتعلق بالعراق والمثقف العراقي والثقافة العراقية: هل قدمت الدولة ما يكفي من الاهتمام بالثقافة والمثقف والمفكرين المبدعين بمختلف تسمياتهم وعناوينهم؟ ثم هل كان المثقف نفسه فاعلا في سعيه لترسيخ الابداع وانعكاساته على واقع الحياة العراقية، ثم هل فكّر المعنيون بالثقافة العراقية، أفراد أو تجمعات ومنظمات ودولة ومؤسسة فكرية او ثقافية، بأن التراجع والنكوص والتردد في استثمار الابداع سوف يقودنا الى ما يُحمد عقباه؟

إن المنطق الصحيح يقول بأنك إذا لم تستثمر المتاح لك في هذا المجال أو ذاك، فإن ذلك سيقودك الى نقيض ما تهدف إليه تماما، بمعنى إذا لم تستخدم الوسائل الابداعية المتاحة لتطوير المجتمع كما يجب، فإنك تسمح للمستبدين بإعادتك الى مربع القمع الفكري وسواه، ولو أننا سألنا بوضوح ومباشرة، هل كان المثقف العراقي فاعلا ومنتجا جيدا للإبداع والتجدد؟، سنقول بوضوح، كلا لم يقم المثقف الفرد ولا الجماعة ولا المؤسسة الثقافية بالاستثمار الصحيح للجانب الابداعي، إذ هناك خمول بيّن، وكسل لا يقبل الدحض، رافق الحراك الثقافي والفكري لدى الأفراد والجماعات، لدرجة أننا على سبيل المثال نستطيع أن نؤشر نشاطا شكليا كاذبا لمعظم مؤسسات المجتمع المدني في العراق فضلا عن بعض المنظمات المحسوبة على الفكر والثقافة، إذ يؤشر ذلك ايضا خللا مصدره الدولة والحكومة والمؤسسات الثقافية الرسمية في القيام بواجبها ازاء الفكر والثقافة والمفكرين عموما.

اذن نحن ازاء تقصير مزدوج تشترك في الجهات الرسمية وحمَلَة الفكر والثقافة ايضا، فعندما يتم اهمال الابداع والثقافة من الدولة، ستكون النتائج واضحة للجميع، وهذا في الحقيقة ما نعيشه اليوم كعراقيين، لاسيما اذا عرفنا بأننا من جانب تخلينا عن شرط الحرية او تقاعسنا في هذا الجانب، وسمحنا للجانب الرسمي ان يهمل الثقافة والفكر ومصادرهما، وهو امر غير مسموح به في الدول المتطورة، كذلك لم تعي الدولة نفسها واجباتها المهمة في هذا الجانب، أي انها لم تقم ما ينبغي ان تقوم به للثقافة والابداع والتحفيز المجتمعي على التجدد.

ولذلك أم طبيعي عندما يتم اهمال الابداع واصحاب الفكر، فإن النتيجة سوف تكون دولة ضعيفة غير قادرة على التطور بل هي اصلا غير قابلة للتغيير، بالاضافة الى ان المجتمع نفسه سوف يكون خاويا، ولا يمكن أن يكون حاضنة منتجة للابداع والفكر القادر على نقل الدولة والمجتمع من حيز التخلف الى نقيضه، وهو التقدم الذي تسعى إليه حتى الدول المتقدمة الآن، فهي لا تكتفي بتقدمها الحاصل فعلا، بل تطمح بالمزيد، أما نحن فعلى الرغم من تراجعنا وتخلفنا ثقافيا وابداعيا، لكننا لم نتحرك كما يجب، لا على المستوى الرسمي الحكومي والمؤسساتي، ولا على مستوى المثقفين والمفكرين أنفسهم، إذ نلاحظ تقاعس حتى المعنيين بالابداع وانعزالهم وعدم القيام بدورهم كما يجب، وهذه مشكلة ينبغي التصدي لها بطرق علمية مدروسة ومخطط لها جيدا للعبور من ظلام التخلف الى فضاءات التقدم الواسعة.

اضف تعليق