ان التفكير الجمعي الاستراتيجي هو الذي نقل المجتمعات المتأخرة إلى حيّز التقدم، من خلال الابتكار الدائم وتنمية روح الإبداع، ونبذ الفكر السطحي المتعجّل، فهذا النوع من التفكير قد يعود بالفائدة على صاحبه، لكنه سرعان ما يتبخر بسبب حصره بالمنفعة الفردية الآنية قد تنقلب الى مضار على المنظور القريب...
الفردية لها طريقان من التفكير، أحدهما ينتهي بحامله إلى نتائج (مزدوجة فردية جماعية) مذهلة، والطريق الثاني يحصره في زنزانة الذات، ويكبّله بالتفكير الأناني المجدِب، وسؤالنا هنا، هل هناك تفكير أناني؟ هذا السؤال يمكن أن نطرحه على أنفسنا، لأن المرحلة الراهنة لنا كعراقيين كما يتضح من مجرياتها، مليئة بالتفكير الأناني.
لا نجد حتى اللحظة مبررات وافية لهذا الانتقال المجحف من التفكير الداعم للتماسك المجتمعي، إلى التفكير البخيل بخيراته وثماره، على العكس مما كان عليه أهلنا في الماضي البعيد والمنظور أيضا، فقد كان الأقدمون من أسلافنا بعيدين كل البعد عن التفكير بالذات والمصلحة الفردية الآنية، بل لابد أن يكون هناك تفكير مشترك مع الآخرين ينتهي إلى فوائد تشمل الجميع لتعزز قيم التعاون والرفاهية والعيش اللائق بالإنسان.
فقد كانت الحياة آنذاك صعبة أيضا، وكان الناس يكافحون من أجل حياة أفضل، لكن هذا الكفاح والبحث عن الأفضلية لم يقدهم إلى التفكير الأناني، إذ كان الناس متعاونين مع بعضهم، لا يفكرون بالفائدة الآنية المحصورة بالفرد وأفراد عائلته، وبعضهم ربما محصورة بنفسه فقط، على عكس ذلك كان الأقدمون يفكرون بالغد وبالمحصلة النهائية ذات المنافع الجمعية، فما فائدة أن تعيش مرفّها بين حشد من الفقراء المحرومين، وما فائدة أن تُسعد الآن لتنتهي نهاية التعساء!!
من الظواهر التي كانت سائدة بين الناس، أنهم يشعرون بالآخرين، ويفكرون بهم مثلما يفكرون بأنفسهم وعائلاتهم، وكان المهم لديهم أن لا يؤذوا الآخرين، بل ينصب تفكيرهم بكيفية الفائدة المشتركة البعيدة المدى، ويرفضون الفائدة الفردية العاجلة، ويؤمنون بأن المساواة في الانتفاع بالمكاسب يجعل الجميع سعداء، ويُسهم في تعزيز التآزر المجتمعي.
التفكير وتنمية روح الإبداع
قديماً ليس هناك تفكير متعجّل يطمح إلى قطف النتائج قبل نضوجها، وليس هناك تداعيات تعود على الآخرين بالأذى مقابل الانتفاع الآني الزائل بسبب طابعه الأناني، لهذا السبب يؤكد المعنيون على أن التفكير الجمعي البعيد هو الذي نقل المجتمعات المتأخرة إلى حيّز التقدم، من خلال الابتكار الدائم وتنمية روح الإبداع، ونبذ الفكر السطحي المتعجّل، فهذا النوع من التفكير قد يعود بالفائدة على صاحبه، لكنه سرعان ما يتبخر بسبب حصره بالمنفعة الفردية الآنية.
وقد أبدى العلماء المعنيون جهودا استثنائية لتحليل التفكير، والخروج بنتائج ترقى إلى ضمان حياة ينتفع فيها الجميع، وتطوير طرائق غير نمطية، تعلو بالنفس فوق المراتب الغريزية المتدنية، وهكذا استطاع (Henry Minzberg) في عام(1994م) أن يضع مفهوم التفكير الإستراتيجي في إطار أكاديمي واضح، وحدد غاياته وأبعاده ووضع حدوده مع المصطلحات الأخرى وأشار إلى أن هذا النوع من التفكير هو طريق خاص للتفكير، يهتم بمعالجة البصيرة، وينجم عنه منظور متكامل، من خلال عملية تركيبية ناجمة عن حسن توظيف الحدس والإبداع في رسم التوجهات الإستراتيجية، وبهذا أسهمت مثل هذه البحوث والدراسات في تطوير التفكير الجمعي، وإنقاذه من الفردية ذات الطابع الأناني الخاطئ.
وقد انتهى العلماء المختصون إلى أن التفكير البعيد، يعتمد بالدرجة الأولى على رفض البعد الأناني الفردي الذي يهدف إلى تحصيل المصلحة الذاتية بعجالة، بغض النظر عن الأضرار التي سيلحقها بالآخرين، لذلك نحن دائما بحاجة إلى أفكار جديدة بعيدة عن الرؤية الضيقة، أو محدودة المدى، لاسيما إذا عرفنا أن تقدم الأمم مقرون دائما بالتفكير الجمعي المتجدّد.
خطط لتنمية التفكير الأخلاقي
هذا لا يعني تهميشا لتفكير الفرد، بل المقصود الطابع الأناني الذي ينحصر بالذات من حيث الفائدة، وبالآنية من حيث البعد أو الزمن، لذلك تبقى الفوائد والنتائج النهائية من التفكر الآني، ذات طابع فردي، فضلا عن كونها تفتقر لسعة الأفق والذهاب بعيدا في حياض المستقبل، وهذه سمة التفكير الإستراتيجي الذي يتميز بسعة الآفاق، وتعدد الأبعاد، بالإضافة إلى تميزه بالفائدة ذات الطابع الكلي، وتعضيد الشعور بالآخر، وتمكينه من العيش بطريقة متساوية مع الآخرين.
في المجتمعات الضعيفة تزدهر الفردية بدعم من المجتمع نفسه، ونقصد بالفردية هنا (التفكير الأناني بالذات)، ومع ذلك فإن هذه المجتمعات تقمع الفرد وتحاصره في سنن وعادات تحد من مواهبه وقدراته، وهو ما نلاحظه في مجتمعنا العراقي، حيث الأنانية موجودة في التعاملات المختلفة، وهناك سباق محموم بين الناس ذو طابع مادي يضع جميع القيم خلف ظهره.
الملاحَظ أيضا أن الفرد في مجتمعنا مشغول بنفسه أكثر من أي شخص آخر، يشغله حاضره أكثر من مستقبله، لا علاقة له بمصالح الآخرين، وربما لا يشعر بهم، كل هذا ينتج عن نزوع مادي مصدره التفكير المحصور بالأنا، يذكرنا هذا بما قاله الشاعر (إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر)، بمعنى إذا مات هو عطشا، فليمتْ من بعده الجميع عطشا، فالآخرين لا يعنون له شيئاً، ولا حتى حياتهم، هذا النوع من التفكير هو الذي يحرم المجتمع من أية فرصة ممكنة للتقدم.
كيف نخفف من وطأة التفكير المادي؟، هذا ما ينبغي أن نعالجه بعلمية ومثابرة، فالنزعة المادية أخذت تخيّم علينا كمجتمع وكأفراد، أسّ المشكلة يكمن في منظومة القيم التي تحكم علاقاتنا، والقيم هي نمط فكري يجب أن يتم تشذيبه من شوائبه، لاسيما الأنانية التي غالبا ما تكون ملاصقة للمادية.
كل المنظمات المعنية، والمؤسسات الأخلاقية، وحتى الشخصيات الهامة في المجتمع، مسؤولة بدرجة كبيرة عن تنمية التفكير الأخلاقي القائم على منظومة من القيم الرافضة للتفكير المادي، وهي مهمة قد تبدو عسيرة، لكنها ليست مستحيلة، لاسيما إذا كانت مدروسة ومخطط لها جيدا، مع أهمية إسهام جميع المعنيين في تنفيذها، حتى الفرد نفسه مسؤول عن تنقية تفكيره من المادية الأنانية القاصرة عن صنع مجتمع متطور.
اضف تعليق