لا يوجد انفصال بين أنانية الحكومات وأنانية الأفراد، فهناك تفكير ذا فوائد كلّية ينعكس على الجميع، وهناك من يفكر بآنية وأحادية، يشمل هذا الأداء الحكومي وأفراد المجتمع، في حين تحظى الدول الناجحة بحكومات تتميز بصفة التفوق المتمثلة بالتفكير المستقبلي، لذا يوجد فارق كبير بين النوعين من التفكير...
مما ابتليت به الشعوب والمجتمعات المتأخرة، تلك الحكومات التي لا تتقن الرؤية بعيدة المدى ولا يعنيها المستقبل، بل كل ما يعنيها ويهمها أن تحصد النتائج بشكل فوري وإن كانت غير ناضجة، أو ليست ذات فائدة للمجتمع، ومن الأمثلة على هذا النوع من الحكومات ما نجدهُ الآن ووجدناه سابقا في حكومات دول الشرق المتوسط المتأخرة ومنها العراق.
بنظرة مستقصية نستطيع أن نلاحظ فشل الحكومات المتعاقبة في بناء دولة، وبناء اقتصاد متميز على الرغم من أن الموارد الطبيعية والبشرية والظروف الأخرى متوافرة لمن يريد أن يبني دولة متميزة وشعب منتِج، لكن هذا الهدف لم يتحقق، كما لاحظنا ذلك في العراق، لأننا على تماس قريب مما جرى ويجري في هذا البلد الذي لا يزال يعاني من حكوماته (قصيرة النظر).
لم تقتصر تداعيات قصْر نظر الحكومات عليها فقط، ولم تلحق الأذى بها وحدها، بل تتعدى ذلك إلى المجتمع، وإلى الفرد أيضا، فهناك أُناس لا تبتعد نظرتهم سوى بضع خطوات عن ذواتهم، وهؤلاء في الحقيقة لا يرون سوى أنفسهم، ولا يتمتعون بنظرة بعيدة تتوغل بعيدا في المستقبل، لذلك يقول المعنيون إن الفارق بين الإنسان الناجح والفاشل، يعتمد على الفارق في النظرة المستقبلية لديهما.
قد يقول قائل إن الحكومات ليس لها دخل في طبيعة تطلعات الفرد وقدراته، وهو قول يجافي الحقائق، فكل فرد هو ابن البيئة التي يتحرك وينشط فيها، وقديما قيل (من رافق القوم أربعين يوما صار مثلهم)، فإذا كان النموذج القيادي (الحكومي) قاصر في رؤيته، ومتعجّل في حصد النتائج الآنية، وغير عابئ بالتخطيط للمستقبل، فإن المجتمع يكون خاملا، والفرد لن يكون نابغة، ومن المحال أن يكون منتجا متميزا في حكومة عاجزة ودولة مترهلة.
مساوئ التفكير قصير المدى
فيصبح أفراد المجتمع أقرب إلى قادتهم ونماذجهم في التفكير القاصر أو قصير المدى، ومنهم من لا يهمه المستقبل، فيكون من النوع الذي يريد أن يصل فورا إلى الثمار التي غالبا ما تكون غير ناضجة بسبب استعجاله للنتائج، ولكن تعجّله وأنانيته وقصر نظرته وضآلة تفكيره تدفعه لقطف هذه الثمار الآن حتى وإن كانت ليست ناضجة، ولا تصلح للقطف إلا بعد التخطيط الطويل.
الحكومات لا تختلف أيضا من حيث الرؤية والتفكير، وكل الحكومات قصيرة النظر فاشلة، ولن تترك في التاريخ السياسي لبلادها سوى الشواهد المؤسفة على أدائها القاصر، فكما هو متعارف يوجد فارق كبير بين التفكير البعيد الذي يعتمد الابتكار وتقديم أفكار جديدة يصعب على المنافسين تقليدها إلا بتكلفة عالية سواء من ناحية الزمن أو نوع المنتج.
إذا فالأداء الحكومي ينعكس على الأداء المجتمعي، ويظهر جليا في طريقة تفكير الفرد وبعد أو قصر رؤيته، لأن معظم الأفكار الجديدة في مجال الإدارة والإنتاج ظهرت في مناخ ديمقراطي يسمح باشتراك أكبر عدد من الأفراد مع إعطائهم أكبر قدر من الحرية المنظمة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم، وعدم فرض أية قيود على الاقتراحات والأفكار المقدمة منهم سواء في مجالات علمية أو فكرية أو سواها.
الحكومة الناجحة بعيدة النظر، مستقبلية الأداء، ترعى التجارب التي تتطلع إلى مستقبل زاهر، فردية أو مؤسساتية، فيتم استقبال ودراسة التجارب بجدية مع التشجيع والحوافز، ومن ثم تقييم تلك التجارب في مرحلة لاحقة لضمان وجود أكبر قدر ممكن من الأفكار والمقترحات البناءة، فكثير من الأفكار الخلاقة بدأت بأفكار كان من الصعب تصديقها، لكنها مع مرور الوقت والإصرار وتكرار المحاولات تحولت إلى واقع بعد أن كانت أفكار مجردة لا أكثر.
حاجتنا للتخطيط المستقبلي
هناك من لا يريد أن يعترف أو يعرف بأن التفكير الآني غالبا ما ينحصر بالفائدة الذاتية السريعة، أي عندما يضيق أفق التفكير وينحصر بالذات من حيث الفائدة، وبالآنية من حيث البعد أو الزمن، لذلك تبقى الفوائد والنتائج المرتقبة من التفكر الآني، ذات طابع فردي أناني، فضلا عن كونها تفتقر لسعة الأفق والذهاب بعيدا في أعماق البناء المستقبلي.
لا يوجد انفصال بين أنانية الحكومات وأنانية الأفراد، فهناك تفكير ذا فوائد كلّية ينعكس على الجميع، وهناك من يفكر بآنية وأحادية، يشمل هذا الأداء الحكومي وأفراد المجتمع، في حين تحظى الدول الناجحة بحكومات تتميز بصفة التفوق المتمثلة بالتفكير المستقبلي، لذا يوجد فارق كبير بين النوعين من التفكير، أحدهما فردي نفعي ضيق الأفق، والآخر جمعي كلي ينحو إلى البناء المستقبلي بعيد المدى.
العراق بحاجة إلى هذا النوع من الحكومات التي تمتلك قدرة الأداء المستقبلي ولا تهمل الآني، بل تجعل من اللحظة منطلقا نحو المستقبل، ولا تقف في طريق الابتكار الفردي، وإنما تحتضنه وتدفع به إلى الأمام دائما، فحين تفضّل الدول المتطورة طريقة التخطيط والبناء بعيد المدى، فإنها لا تقف أمام توجهات وتطلعات الفرد في تفكيره وإبداعه، إنما تدعمه في تحقيق ما يصبو إليه وما يطرحه من أفكار بناءة هدفها قطف الثمار بعد نضوجها وليس قبل ذلك.
يحدث العكس تماما من قبل الحكومات المتلكئة، فهي حكومات ذات طابع فكري ينحو إلى النفعية وتفضيل الذات من خلال التخطيط الذي لا يتعامل مع الأفق البعيد، وتقمع الفرد وتقصيه، وبهذا يتحول الإنسان في المجتمعات المتأخرة إلى كائن مهمش وفاشل لسببين أساسين:
الأول: إن تفكيره آني وسطحي يفتقر للعمق ولا يتوغل بعيدا في آفاق المستقبل.
الثاني: يتمثل بحالات الإقصاء التي يتعرض لها المبدع المفكر المتميز، ولاسيما الإقصاء الحكومي من قبل الحكومات الفاشلة التي تهمّش مواطنيها، باستثناء الذين يصطفون إلى جانب السلطة من اجل المصالح الآنية، وهم فئة لا تشكل نسبة كبيرة من المجتمع.
بالنتيجة يجب أن يكون التفكير المستقبلي أعظم الأهداف الحكومية، مع أهمية إلغاء التفكير النفعي السريع، وغرس الأفكار والقيم السليمة في شرائح المجتمع المختلفة، من خلال صنع المسؤول (القدوة) الذي يؤثر في الآخرين بشكل ايجابي دائما.
اضف تعليق