أتذكر مائدة رمضان في الصحن الشريف، فنحن رغم الفقر المحيط بنا، لكن المائدة عامرة بأصناف الطعام والعصائر، وكنت أسمع دائما من أبي وأمي رحمهما الله وهما يقولان خير شهر رمضان يأتي معه، كان الجميع يأكل ويشرب بعد جوع وعطش النهار الطويل، الوحيد الذي لم يكن بيننا...
حمزة ابن عمّتي يكبرني بثلاث سنوات، عشنا طفولتنا معاً في حي الإسكان، بيوت هذا الحي ذات مساحة صغيرة، الغرف تشبه الزنازين، صغيرة جدا قياسا للغرف الواسعة اليوم، عائلتي المكوّنة من خمسة أفراد حصلت على غرفة صغيرة من بيت عمّتي، وحُشرنا فيها حشرا، لدرجة أن أجسادنا عند النوم بالليل تتكدس فوق بعضها، الفقر كان عنوانا عريضا لنسبة كبيرة من أهالي الحي، وعائلتي التي حُشرت في غرفة صغيرة، تقع تحت خط الفقر، لكننا عشنا طفولة لا تُنسى.
كنتُ في الصف الأول الابتدائي حين حلّ شهر رمضان علينا وكان الفصلً خريفا كما أتذكر، قرّرت العائلتان (عائلتي وعائلة حمزة) الذهاب لمدينة النجف الأشرف لأداء مراسيم زيارة استشهاد الإمام علي عليه السلام، وصلنا النجف قبل أن يُرفع أذان المغرب بساعة، كان الصحن الشريف يعج بمئات الأجساد، والمدينة تكتظ بالآلاف، لدرجة أن الزحام ملأ الشوارع والأزقة كلّها.
أخذت العائلتان مكانا صغيرا من الصحن، وفرشنا حصيرا وجلسنا عليه، وبدأ الكبار بزيارة المرقد الشريف، أتذكر أن والدي رحمه الله أخذني معه لأداء الزيارة، أمسك بيدي وراح يسحبني بين الحشود ثم رفعني من الأرض على متنه خوفا من فقدانه لي، دخلنا قبة المرقد وأنا على متنه أتطلع بدهشة لرؤوس ووجوه الزائرين، وللأضواء الهائلة المشعة في كل مكان من المرقد، والمراوح والثريات المتدلية من السقف نحو رؤوسنا، وكنت أركّز النظر على التصاق أجساد الزائرين بشباك المرقد الفضي المشعّ، والخشوع يتلبس الزائرين والدموع تهمي من عيونهم وتسيل على خدودهم كأنها غدران تجري في أرض رملية.
النساء أيضا لهنّ حصة في زيارة المرقد الشريف، وكان أبي رحمه الله يؤكد على النساء اللواتي يصطحبن الأطفال أن لا يتسببن بضياع أحد أطفالنا في زحمة الأجساد، أتذكر بعد عودتي من زيارة المرقد مع أبي، أنني لم أرَ ابن عمتي حمزة مع الجالسين على الحصير، أكثر من عشرة أجساد تقتعد الحصير إلا حمزة لم يكن موجودا بينهم، رُفع الأذان وتم تجهيز مائدة الطعام على الحصير وبدأ الصائمون يتناولون التمر واللبن ثم باشروا بأداء الصلاة.
حتى هذه اللحظة لم أرَ حمزة، لكن في لحظة حين خرجت من الصحن الشريف صحبة أبي لجلب اللبن وبعض المثلجات، شاهدته يمسك بكرة بلاستك صغيرة ويلعب مع مجموعة من الأطفال، أخبرتُ أبي وأشرت له نحو مكان تواجد حمزة، فذهب إليه وطلب منه العودة إلى داخل الصحن لأنّ ظلام الليل بدأ يهبط ويتكاثف، لكن حمزة واصل اللعب، فيما ذهبنا أنا وأبي لشراء اللبن وعندما عدنا كان الأطفال يواصلون لعبهم ولم يكن حمزة من بينهم.
أتذكر مائدة رمضان في الصحن الشريف، فنحن رغم الفقر المحيط بنا، لكن المائدة عامرة بأصناف الطعام والعصائر، وكنت أسمع دائما من أبي وأمي رحمهما الله وهما يقولان (خير شهر رمضان يأتي معه)، كان الجميع يأكل ويشرب بعد جوع وعطش النهار الطويل، الوحيد الذي لم يكن بيننا هو حمزة، عندها سأل أبي الجالسين: أين حمزة؟
هبّتْ عمتي من مائدة الطعام، وصرخت أين ابني؟، حزمة من التساؤلات اندفعت من الأفواه بقوة، ذهب الشباب والرجال بحثا عنه، أبي توجّه إلى ساحة اللعب لكن لم يجد حمزة، النساء أيضا بدأن يبحثن عن حمزة في الصحن، فيما خرج الرجال بعيدا عن الصحن يبحثون في الأزقة والساحات من دون الوصول إلى نتيجة.
زحام الزائرين كان شديدا، ولم تكن آنذاك هواتف أو وسائل اتصال، ولا يوجد في حينها تنظيم إداري يتابع حالات التيه، مضت ساعة من البحث المتواصل ولا أثر لحمزة، ذهب أبي وأبو حمزة إلى مركز الشرطة وبعد حين عادا بلا نتيجة، كنت أسمع عمّتي وهي تصرخ لن أغادر الصحن إلا ومعي ابني حمزة، وبعد حين كانت تنظر نحو الضريح بعينين دامعتين وتخاطب الإمام عليه السلام (أريدُ ابني منك، أنا جئت لزيارتك، ابني أمانة بين يديك)، البكاء أخذ يعلو والظلام يتكاثف والساعات تمضي وقلوبنا خائفة منكسرة حزينة على فقدان حمزة.
وصل الجميع إلى درجة اليأس المطلقة، لم تعد هناك أي جدوى من البحث، الجميع تحرك، الرجال والنساء، أتذكّر يد أمي رحمها الله وهي تقبض على يدي بقوة وبالأخرى بكف أخي الأصغر، دموعها تتدفق وهي تندب الإمام، عمتي سقطت على الأرض ولم تعد قادرة على الصراخ، بل ولا حتى الكلام، عاد الجميع بقلوب واهنة يائسة من العثور على حمزة، ضاع الطفل في لحظة سهو، ولا أحد يعرف أين هو حمزة.
أتذكّر وجه أبي الحزين وهو يطلب من الجميع التوجّه إلى (كراج) السيارات كي نعود إلى مدينتنا، صرخت عمّتي بصوت واهن ضعيف، لن أعود إلا وابني معي، ثم نظرت إلى الصحن الشريف بوجه حزين وهي تعاتب الإمام على فقدانها لابنها، صعدنا جميعا في سيارة أجرة كبيرة، آخر من صعد عمّتي، حملوها بالقوة، كانت تبكي وعيناها تتطلعان إلى الوراء حيث المنائر الذهبية المضيئة وتتمتم مع نفسها بكلمات معاتِبة.
وحين وصلنا مدينتنا تركنا الحافلة إلا عمّتي التي كانت تصرخ: سأعود بهذه السيارة إلى النجف، أريد أبني، أين حمزة.
أنزلوها بالقوة أيضا، وبدأت أقدامنا المتعبة تحمل أجسادنا إلى حي الإسكان، وصلنا الزقاق، ثم وصلنا باب بيت عمّتي، كان الصمت والظلام يهيمنان على الزقاق باستثناء ضوء شحيح لمصباح بعيد، تعالى بكاء عمّتي وارتفع نحيب، وحاول أبي والآخرون تهدئتها، وفي لحظة خرج جارنا أبو جواد ومعه حمزة وقال: لقد وصل حمزة قبلكم بساعة..
قفزت عمَّتي من الأرض ونظرت باتجاه النجف وخاطبت الإمام عليه السلام: كنت أعرف أنّك ستعيد لي ابني سالماً...
اضف تعليق