لا يزال العراق معرّضا في مؤسساته المختلفة لعمليات فساد مستمرة، على الرغم من كل التحذيرات التي صدرت من منظمات دولية ومحلية مستقلة، حتى المظاهرات التي تواصلت على مدى سنوات متعاقبة لم تردع الفاسدين، هذا ما يؤكد عجز الدولة العراقية بطبقتها الحاكمة الحالية عن مواجهة الفساد...
تؤكّد حقائق وأدلّة كثيرة على وجود عمليات فساد كبيرة في العراق، بدأت من المحاولات المستمرة لإضعاف الدولة ومؤسساتها، أسهمت بذلك أحزاب سياسية كبيرة ومتوسطة وحتى صغيرة، بالإضافة إلى أهداف دول إقليمية سعت إلى زرع مؤيدين لها من بين صانعي القرار، مقابل دعمهم بالأموال والمناصب، فكانت النتيجة اشتعال شرارة التظاهرات منذ 2011 صعودا، حتى بلوغها المنعطف الخطير في مظاهرات تشرين الماضي التي لا تزال مستمرة حتى الآن.
الفساد بحسب محللين مختصين تشكّل جريمة خطيرة يمكن أن تقوض التنمية الاجتماعية والاقتصادية في جميع المجتمعات. ولا يوجد بلد أو منطقة أو مجتمع محصَّن بدرجة كاملة من عمليات الفساد المختلفة، مع تباين الدرجات والمستويات. وقد أقام مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي شراكة عالمية تركز على كيفية تأثير الفساد على التعليم والصحة والعدالة والديمقراطية والازدهار والتنمية، وهذا يبيّن خطورة الفساد على البنية المجتمعية وانعكاس ذلك على البنى السياسية والاقتصادية وغيرهما.
على المستوى العالمي وبحسب معلومات مؤكّدة ومن مصادر مستقلة، في كل عام تصل قيمة الرشى إلى تريليون دولار، فيما تصل قيمة المبالغ المسروقة بطريق الفساد إلى ما يزيد عن ترليونين ونصف دولار، وهذا مبلغ يساوي خمسة في المائة من الناتج المحلي العالمي. وفي البلدان النامية- بحسب ما يشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي- تقدر قيمة الفاقد بسبب الفساد بعشرة أضعاف إجمالي مبالغ المساعدة الإنمائية المقدمة.
لهذا فإن الجهود التي ينبغي توفيرها في مواصلة مكافحة الفساد لا تتوقف على جهة محددة، فيجب على الحكومات والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية ووسائط الإعلام والمواطنين في جميع أنحاء العالم أن يتضامنوا مع بعضهم لمكافحة هذه الجريمة. لاسيما أنها تقوّض جميع المساعي التي تقوم بها الدول والحكومات لمحاربة شبكات الفساد لاسيما تلك التي تدخل في إطار المؤسسات والدوائر الحكومية بمختلف مهامها.
مظاهرات ذات نمط مختلف
وكانت الجمعية العامة قد اختارت يوم 9 ديسمبر من كل سنة كيوم دولي لمكافحة الفساد، من أجل إذكاء الوعي عن مشكلة الفساد وعن دور الاتفاقية في مكافحته ومنعه. ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في كانون الأول/ديسمبر 2005. وبدأت بنشاطات تسعى للحد من عمليات الفساد، وتقوم بإصدار قوائم دورية عن تسلسل الدول من أقل دولة فسادا إلى أكثرها وقد جاء العراق في المرتبة 168 لعام 2018، وهي مرتبة تدل بوضوح على انتشار الفساد في العراق بصورة مرعبة.
وبعد اندلاع موجة المظاهرات الحالية منذ مطلع تشرين الأول الماضي، وبعد أن تبيّن للأحزاب والطبقة السياسية الحاكمة اختلاف هذه الاحتجاجات وعدم نمطيتها، حاولت الحكومة اتخاذ خطوات وإجراءات تهدف من ورائها إلى إظهار مساعيها في مجال مكافحة الفساد، لكن على الرغم من الغليان الشعبي الذي نجمت عنه مظاهرات مناهضة للفساد أودت بعشرات الأشخاص، لم ترتقِ الإجراءات الحكومية إلى مستوى الأزمة، إذ إنها طالت صغار الفاسدين بحسب مصادر إعلامية، ولم تقترب من "حيتان المال"، في بلد يعدّ أحد أكثر البلدان فسادا في العالم.
وتؤكد تقارير لمراقبين عجز الحكومة العراقية عن مكافحة المسؤولين الذين لا يتورعون عن عقد الصفقات والفاسدة حتى في ظل ما يجري من مظاهرات عارمة، وقد تداولت وسائل إعلام ما تقوم به وزارة الكهرباء حاليا من توقيع عقود ضخمة على الرغم من أن وزيرها غير مخوّل بذلك كونها وزارة تصريف أعمال، ولا يجوز لها استغلال ظروف الاحتجاجات لتمرير مثل هذه العقود المريبة، ويرى مراقبون أن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي -المستقل غير المدعوم حزبيا- لا يزال رهين زعماء الأحزاب التي أتت به إلى السلطة، التي يدينها المحتجون بعدم توفير وظائف وخدمات، وبملء جيوب المسؤولين بأموال الفساد الذي كان سبب تبخّر أكثر من 450 مليار دولار في 16 عاما، بحسب أرقام رسمية.
وتحت حالات الضغط المتنامي بسبب التظاهرات الشعبية الضاغطة، حاولت الحكومة أن تقوم بخطوات لمكافحة الفساد حيث اتخذت الحكومة مجموعة قرارات لردع هذا الوباء الذي فتك بالدولة ومؤسساتها، وكان من أهم هذه الخطوات الحكومية إحالة ألف موظف إلى القضاء، وحل مكاتب المفتشين العموميين. وبحسب وسائل إعلام فإن مصدرا في هيئة النزاهة الحكومية لمكافحة الفساد، يقول إن "قضية الفساد لا يمكن أن تحل دون جدية ونية صادقة" ويضيف المصدر، إن رئيس الوزراء غير قادر على ذلك، لأنه يعرف أن الكل مشترك بالفساد، حتى قبل أن يعمل معهم حين تسلم منصبه قبل عام.
مكافحة جادة أم ذرّ للرماد في العيون؟
هناك تأكيد من المصدر نفسه بأن الفساد في العراق - الذي يحتل المرتبة 12 في لائحة البلدان الأكثر فسادا في العالم بحسب منظمة الشفافية الدولية- يكمن في ثلاثة ملفات. ويوضح أن تلك الملفات هي المنافذ الحدودية، وتهريب النفط، وعقارات الدولة، وإذا قضي عليها انخفض حجم الفساد كثيرا، وتظهر بين حين وآخر قرارات صادرة عن هيئة النزاهة تؤكد صدور مذكرات قبض على مسؤولين سابقين وحاليين بدرجات ومناصب مختلفة، لكن المراقبين يرون أنها لا تزال دون المستوى المقبول أو المطلوب للحد أو التقليل من صفقات الفساد.
وقد ذكرت وسائل إعلام وقنوات فضائية إصدار الجهات العراقية المختصة أوامر قبض واستقدام بحق مسؤولين حاليين وسابقين، منهم بدرجة وزير، على خلفية تهم فساد، وفيما تسعى الجهات الرقابية لتلميع صورتها أمام الشارع العراقي، يؤكد ناشطون عدم ثقتهم بتلك القرارات إلا في حال تحولت لأحكام وأسماء معلنة غير مجهولة، وهذا ناتج عن مرور سنوات طويلة قبل أن تُتّخذ قرارات أو أوامر قبض جدية بحق الفاسدين مما ولّد عدم ثقة بمثل هذه الخطوات.
وقد أكّد المحتجون بأن هذه الإجراءات التي اتخذتها هيئة النزاهة، وهي أعلى جهة رقابية في البلاد، جاءت على خلفية التظاهرات الحاشدة التي اجتاحت العراق، مطالبة بمحاكمة الفاسدين، والتي أجبرت الحكومة على تقديم استقالتها. فيما قالت هيئة النزاهة في بيان لها، إنّ "دائرة التحقيقات في الهيئة أصدرت، خلال الشهر الماضي، أوامر قبض واستقدام بحق وزراء ونواب ومحافظين حاليين وسابقين للتحقيق معهم باتهامات فساد"، مبينةً أن "مجمل إجراءاتها في أوامر القبض والاستقدام الصادرة خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بحق وزراء ومن هم بدرجتهم وذوي درجات خاصة، بلغت 226 أمراً".
وهي خطوة جيدة إذا ما قورنت بالسنوات الماضية التي مرّت بصمت على حالات الفساد التي تكررت في كثير من المؤسسات والوزارات حيث تكررت حالات تلاعب واختلاس تم غض الطرف عنها بسبب المصالح المتبادلة، وهذا ما دفع بناشطين مدنيين إلى التصريح بعدم ثقتهم بتلك الإجراءات، إلا في حال صدور أحكام ضد الفاسدين، وقال الناشط المدني، وسام الطائي، لـ"العربي الجديد"، "ليس لدينا ثقة بقرارات مكافحة الفساد وأوامر القبض والاستقدام، نريد أحكاما تصدر بحق شخصيات وأسماء معلنة غير مخفية، وهذا ما نسعى إليه". وشدد على "كل المؤسسات الرقابية مسؤولة أمامنا عن مكافحة الفساد، وإن لم نر أحكاما وعقوبات واضحة، فإن تلك المؤسسات شريكة بالفساد".
في الخلاصة مما تقدم، لا يزال العراق معرّضا في مؤسساته المختلفة لعمليات فساد مستمرة، على الرغم من كل التحذيرات التي صدرت من منظمات دولية ومحلية مستقلة، حتى المظاهرات التي تواصلت على مدى سنوات متعاقبة لم تردع الفاسدين، ولم تمكّن الحكومة من اتخاذ قرارات حقيقية رادعة، هذا ما يؤكد عجز الدولة العراقية بطبقتها الحاكمة الحالية عن مواجهة الفساد المالي والإداري بجديّة، على الرغم من تواصل الاحتجاجات وتقديمها لطابع تحذيري مخيف، باحتمال الخروج عن السيطرة إلى منعطف دموي لا يُبقي ولا يذر.
اضف تعليق