اليوم قمتُ بجولة في مدينتي، مررْتُ في العديد من أحيائها، ودخلتُ الكثير من شوارعها، شاهدتُ حركة الناس، والسيارات، وزحمة المطاعم، والمحال وهي تفتح أبوابها للمتسوقين، لاحظتُ محال الخضراوات التي تنتشر في كل مكان، هذه المشاهد والمشاهدات تعطي لمن يقوم بها صورة عن الواقع العشوائي...
اليوم قمتُ بجولة في مدينتي، مررْتُ في العديد من أحيائها، ودخلتُ الكثير من شوارعها، شاهدتُ حركة الناس، والسيارات، وزحمة المطاعم، والمحال وهي تفتح أبوابها للمتسوقين، لاحظتُ محال الخضراوات التي تنتشر في كل مكان، هذه المشاهد والمشاهدات تعطي لمن يقوم بها صورة عن الواقع العشوائي الذي يمرّ به العراق اليوم، ويعيشهُ العراقيون من دون أن تظهر أية بوادر جادة لمعالجته.
مما شاهدتهُ أثناء جولتي التي أخذت مني ساعات، ظاهرة الحلول الترقيعية التي تخللّت كل شيء في حياتنا، فمثلا حين تقوم الجهة المعنية بتبليط شارع ما، فإنها في الغالب لا تقوم بإكمال التعبيد كما يجب، بل تترك وراءها بقعة هنا أو أخرى هناك بمساحات ومسافات متباينة، لا تقوم بتبليطها وإكسائها بالإسفلت، ما أقوله هنا ليس اتهاما لدائرة حكومية بعينها ولا لشخص أو مسؤول بعينه، ما أقصده هنا هو التأكيد على أن ثقافة الحلول الترقيعية انتشرت في حياتنا كلّها!.
يكفي لأي مسؤول أو أي شخص التجوال في شوارع المدينة والأحياء السكنية، ليكتشف أن الكثير من الشوارع المبلّطة تتخللها مساحات صغيرة هنا وهناك متروكة بلا إكساء، بالطبع أنا هنا لا أقصد المطبات (الطسّات) التي تحدث بسبب تقادم التعبيد ومرور زمن طويل عليه، ولا بسبب الاستخدام السيّئ للطرق، بل ما أقصده هو ترك مساحات غير مبلّطة في الشوارع!.
أما الاستخدام السيّئ للطرق فهو ظاهرة عجزت كل الحكومات المحلية عن معالجته، حيث تقوم سيارات الحمل الثقيلة باستخدام طرق الأحياء السكنية للتنقّل من مكان إلى آخر، مخالفة بذلك للقانون، ومحدثةً تخسفات تدمر الشارع وتجعله غير صالح للاستعمال، وكثيرا ما سمعنا بتصريحات من مديريات المرور بأنها ستتخذ الإجراءت القانونية بحق المخالفين، لكن سرعان ما تذهب تلك التصريحات أدراج الريح لتصبح هواءً في شبك.
أحد أعضاء مجالس المحافظات في أحدى المدن، قام بتبليط مسافة قليلة لأحد الشوارع، وهي عبارة عن شارع قصير جدا غير معبّد على الرغم من أن مئات أو آلاف السيارات تمر عليه يوميا، سيادة النائب الذي كسا هذه المسافة القصيرة، وظَّف وسائل التواصل للإعلان عن عمله هذا، بالطبع هو يُشكَر على ما قام به، ولكن أين عمل الحكومة المنتظم، وأين الدوائر المعنية بتبليط الطرق، وقبل هذا وذاك، أين الخطط الإستراتيجية وليس الترقيعية التي تعالج هذه الظاهرة وغيرها؟
هذه العشوائية وهذا الترقيع هنا وهناك، هل هو نوع من السلوك الذي اعتدنا عليه كمجتمع؟، وهل انتقلت هذه الثقافة إلى الدوائر وإلى معظم المسؤولين بمختلف مراكزهم الوظيفية وطبيعة أعمالهم ومهامهم؟، إذا أردنا أن نبحث في هذه الظاهرة (الترقيع)، فإننا مطالَبون بالبراهين والشواهد، لكشف الأسباب ومن ثم تبيان النتائج.
أما البراهين فهي موجودة في الأحياء السكنية وفي المدن وشوارعها وأزقتها وأحيائها، وفي أسواقها التي ما أنزل بها الله من سلطان، حيث يفترش الباعة أرصفة الشوارع في منظر مقزز ومزعج ويدل على إننا أناس غير معنيين بالنظام والتنظيم، ويؤكد على إن دوائرنا الخدمية التنظيمية، ومن يقودها لا تعنيهم جمالية المدينة ولا القوانين ولا النظام.
هناك من يقول إنها أرزاق ناس، يعرضون ما يحتاجه الآخرون من خضراوات وأسماك وبيض مائدة ولحوم مختلفة، كي يشتري المتسوقون ما يحتاجونه، وفي نفس الوقت يحصل الباعة على أرزاقهم اليومية، بالطبع لا أحد يعترض على ذلك، ومن غير المنصف الوقوف ضد البيع والشراء لأنه يخدم الجميع، لكن الاعتراض على العشوائية والاستخدام المسيء للأرصفة والشوارع والساحات، لماذا هذه الحلول الترقيعية وإلى متى ستستمر؟
لماذا لا توجد رقابة رسمية من الجهات المخوّلة بالتنظيم، لماذا لا تُبنى أسواقا معاصرة تحتوي على دكاكين تقوم الدوائر المعنية بتأجيرها للباعة، لماذا لا تبدأ الحكومات المحلية ودوائرها المختصة بالتصميم العمراني والهندسة والطرق والجسور والكهرباء والماء وكل الدوائر المعنية، بوضع خطط إستراتيجية بعيدة وقريبة المدى للقضاء على الحلول الترقيعية والعشوائية في حياتنا؟
نحن شعب له جذوره العريقة في العلوم والآداب، نتقن الهندسة والتصميم، أذكياء، نمتلك موارد طبيعية وبشرية هائلة، ماذا ينقصنا كي نتخلص من ثقافة الترقيع؟
سؤال لا يمكن أن يجيب عنه سوى الحكومات الاتحادية والمحلية، لكن هذا لا يعفي الآخرين من المسؤولية والإجابة، المؤسسة الجامعية العلمية مطالبة بدورها في القضاء على ظاهرة الترقيع، منظمات المجتمع المدني كذلك، المنظمات الثقافية بمختلف أنواعها، الإعلام له حصة الأسد في الرصد والكشف والمطالبة والتذكير وحتى التوجيه، جميع المؤسسات بمختلف مهامها وتوجهاتها مطالَبة بإرشاد الناس والمسؤولين إلى الكف عن ثقافة وسياسة الترقيع.
وأخيراً، وربما أولا، تقع المسؤولية على الفرد المواطن، ومن الخطأ أن يقول إنه غير مسؤول عن هذه الفوضى، وإنه لا حول له ولا قوة في التغيير والقضاء على صور الترقيع والعشوائية التي تعج بها حياتنا، كل فرد في المجتمع العراقي تقع عليه مسؤولية تنظيمية ذوقية جمالية ثقافية سلوكية، سوف تُسهم بحصة كبيرة في مجال القضاء على الفوضى التي نراها ونعيشها في شوارعنا ومدننا وأسواقنا ودوائرنا وحياتنا كلّها، فهل سنقضى قريبا على ثقافة الترقيع؟؟
اضف تعليق