هل نريد أن نبقى كتابا ناسخين لأنفسنا وأفكارنا؟ قطعا سيكون الجواب: كلا نحن نريد أن نكون كتابا مؤثرين مبحوثٌ عنا باستمرار من قبل القراء، لسبب لا يحتاج إلى تفسير، فالقارئ كأي إنسان آخر يحب التجديد لأنه يجد فيه ضالته، ويضيف إلى مخزونه الفكري العلمي الأدبي...
من البساطة بمكان أن نجيب عن سؤال لماذا تقرأ؟ فالإجابة يعرفها كلُّ مدمنٍ وهاوٍ للقراءة، وهناك من يهوى ويحترف قراءة الأدب شعرا وسردا، وثمة من يذهب إلى السياسة والفلسفة والطب والهندسة وسواها، الهدف المعروف هو زيادة المخزون العلمي والأدبي والمعرفي بوجه عام.
الصعوبة حقا تكمن في الإجابة عمّا ورد في عنوان هذه الكلمة، لماذا نكتب؟، لأن الأسباب لا يعرفها سوى الكاتب نفسه، فهناك من يكتب صادقاً، وهناك من يكتب مأجورا، وهنالك الكاتب نصف الموهوب الذي يتمنى أن تستجيب كتابته لما يدور في ذهنه، فليس كل من يهوى أو يحترف الكتابة يكون قادرا على نقل ما يجول من أفكار في رأسه إلى الورق أو شاشة الحاسوب، حتى أنّ بعض الروائيين يشكون من تمرّد شخصيات رواياتهم عليهم، لدرجة أن الشخصية الروائية يصل حد تمردها إلى التفكير كما تريد هي وليس كما يريد كاتبها، وعلى الرغم من أن الراوي هو صانعها لكنها تجبره على أن يستجيب لأوامرها فتصنع نفسها بنفسها حتى لو كان كاتبها أو راويها لا يتوافق معها في أفكارها وسلوكها!.
السؤال يتكرر هنا لماذا نكتب، وهو سؤال أنا شخصيا أقوم بتوجيهه لنفسي حين تبدأ أصابعي بالنقر بصوت عال على أزرار (الكيبورد)، وكنت في الماضي أوجّه السؤال نفسه لي قبل أن يبدأ القلم بوضع الحروف على الورقة البيضاء، ولكن ما لاحظته أنني كلما تقدمت في تجربة الكتابة صار هذا السؤال أكثر إلحاحا، وصارت مسؤولية الإجابة أهم وأكبر، ولعل أهم أركان الإجابة عما نكتب، هو الهدف والصدق.
يصبح السؤال أكثر وضوحاً وتحديدا، ما هو هدفك من الكتابة؟ وهنا على محترف الكتابة بالأخص أن يكون دقيقا وصريحا ومقنعا في إجابته، لأن المتلقي أو السائل من الذكاء لدرجة أنه يمكنه اكتشاف أية إجابة خاطئة يتلفظ أو يبوح بها الكاتب للسائل، وحينئذ سيُتَّهم الكاتب بالمراوغة وحتى بالكذب، وحين يوضع محترف الكتابة في هذه الزاوية فإنه سيفقد أهم مبررات حرفته الكتابية وهي تقدير القراء له، فما فائدة أن نكتب الكذب ونحترفهُ، ومن ذا الذي ستروق له بضاعتها وهي مدججة بالكذب الفاضح.
هذا سيقودنا مباشرة إلى الصدق في الكتابة، فبعد أن يعرف الكاتب هدفه، عليه أن يكون صادقا في الطرح، لأن التمويه والتضليل مهما كان من الخبرة والإتقان سوف يتم اكتشافه إن لم يكن في المحاولة الأولى ففي المحاولة الثانية من القراءة، وسوف سوف يقودنا الصدق في الكتابة إلى ما أهم، إذ ما فائدة أن تعرف هدفك وتكتب بصدق وأنت خالي الوفاض من الجديد والمثير والمبتكر من الأفكار والعلوم المطروحة في كتاباتك؟
هذا الركن من الإجابة هو الأهم من بين كل الأسلة التي يمكن أن تُطرح على ممتهن الكتابة، لأنه ينفرد بالكاتب ويحميه من تكرار نفسه، ويتيح له التخلص من استنساخ كتاباته وإعادة طرح أفكاره المكررة أو التقليدية، وهنا تبدأ رحلة نهاية الكاتب حين يصبح نسخة لا تستطيع التخلص من كتاباته الماضية، فيصل مرحلة اجترار الأفكار لينتهي إلى كاتب تقليدي ما أن تقع عين القارئ على اسمه حتى تفرّ منه إلى أسماء تجدد أفكارها وتبثّ الحياة في كتاباتها وتستقطب آلاف القراء من بين أسماء لأقلام لا حد لها ولا حصر.
فمن بين آلاف الكتاب ومئات النوافذ التي تتيح للقراء مواضيع وأفكارا مختلفة، سيبحث القارئ دائما عن النافر المتميز والجديد والمبتكَر، ويهرب من المجترَ المنسوخ المكرر التقليدي الذي هضمته العين والأذن والذهن مرارا وتكرارا، وكل قديم مكرور لا يستفز ذائقة الناس ولا يمكنه أن يكون قريبا منهم، بينما كل نافر متجدد من الأفكار والأساليب واللغة سيكون له حصة الأسد من القرّاء.
السؤال المتولّد بعد ذلك، هل نريد أن نبقى كتابا ناسخين لأنفسنا وأفكارنا؟ قطعا سيكون الجواب: كلا نحن نريد أن نكون كتابا مؤثرين مبحوثٌ عنا باستمرار من قبل القراء، لسبب لا يحتاج إلى تفسير، فالقارئ كأي إنسان آخر يحب التجديد لأنه يجد فيه ضالته، ويضيف إلى مخزونه الفكري العلمي الأدبي والفلسفي ما هو جديد، فلا يهدر وقته سدى في عصر بات فيه الإنسان مهووسا بالتقدم متطلعا إلى الثراء الفكري والمادي بلا هوادة.
اضف تعليق