تتجسّد الاهمية الكبيرة لمفهوم "الشورى" وتطبيقه على الواقع الاجتماعي والسياسي، عندما تكون في قمة هرم الدولة، لتكون مكملاً للتطبيقات الاخرى في سائر مؤسسات الدولة، في مقدمتها مجلس النواب ومجلس المحافظة والمجالس الاخرى التي تشكلها بعض الدول حسب الحاجة، فما زلنا نلاحظ التجارب الديمقراطية في بلادنا، عبارة عن أبنية تسمى "البرلمان" وفي صدر قاعاتها ترفع لوحة جميلة وكبيرة مكتوب فيها: "وأمرهم شورى بينهم"، وتحت قبة هذا البرلمان يجلس عدد من النواب الذين ينتخبهم الناس كل اربع سنوات، وفي الانظمة البرلمانية، تتمخض من هذا البرلمان حكومة اغلبية.
لكن المشكلة تظهر عندما يصحب هذا المخاض، علائم ديكتاتورية واستبداد في الرأي يتربع على قمة السلطة، ثم تظهر انعكاساته السلبية على الواقع الاجتماعي والسياسي وعلى عموم حياة الناس.
علماؤنا ومفكرونا بحثوا في القضية ليس فقط على الصعيد السياسي، إنما الإداري على صعيد الحوزة العلمية والمؤسسات الدينية، حيث ظهرت تجارب بتشكيل "لجنة الافتاء" في العهود الماضية، لاسيما في عهد الشيخ النائيني، والمرجع الاعلى الراحل السيد حسين البروجردي. ثم برعوا في تجارب عديدة اخرى تحت عنوان "شورى الفقهاء" وفي مرحلة لاحقة ومتقدمة؛ "شورى مراجع الدين"، وهذا إن دلّ، فانما يدلّ على الرؤية المستقبلية والتطلّع نحو تحقيق اعلى نسبة نجاح في بناء جسور العلاقة بين المجتمع والدولة، او بين القاعدة والقيادة، بما يضمن حقوق الناس وفق القيم والموازين الشرعية والعقلية، ويحافظ على النظام العام، بل ويضمن الرفاهية والخير للجميع.
وفي طليعة المبادرين والمجددين لهذه النظرية، سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في عديد مؤلفاته، حيث دعا الى "شورى المراجع" كتجربة رائدة لنظام حكم ناجح ونموذجي قائم على الموازين الاسلامية، وقد عدّ الباحثون في فكر الامام الشيرازي، هذه الدعوة بانها، ابرز سمات الفكر السياسي لديه، لان الفكرة تقوم – كما جاء في كتابه "الصياغة الجديدة- على الانتخاب المباشر الذي تعتمده التجارب الديمقراطية في العالم، حيث يؤكد الحاجة المنطقية لهذه الشورى في زمن غيبة الامام المعصوم، وهو القائد الحقيقي والولي المُطاع بإذن الله، لذا يستدعي الامر اجتماع مراجع الدين الذي هم "وكلاء الإمام" في مجلس واحد يسمى "شورى المراجع"، لان الحكم في هذه الحالة "يكون للقيادة المرجعية الجماعية المنتخبة من قبل المسلمين، وقد ذكرنا في جملة كتبنا: إن الفقهاء المراجع العدول، أعلى قيادة في البلاد الاسلامية، فاذا كان في البلاد الاسلامية – مثلاً- عشرة مراجع للتقليد انتخبهم الناس مراجع لهم، يكونوا هم قادة للأمة في أمور التقليد". ويوضح سماحته مسألة تعدد المراجع واختلاف الآراء الفقهية، بان المقلدين من ابناء الامة، يعتمدون على مراجعهم في مسائل الاحكام الدينية ذات البعد الخاص، مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها، أما "ما يتعلق بالمصالح العامة، مثل السلم والحرب وسائر شؤون الدولة، فعلى السلطة العليا في الدولة المكونة من المراجع ان يستشير بعضهم بعضاً كما يستشيرون الامة...".
ان "شورى مراجع التقليد" القائم على مفهوم "الشورى" المقدس في الاسلام، ليس بالضرورة أن يتمخض في الوقت الحاضر، عن نمط من النظام السياسي يضاف على ما موجود في العالم، مثل الانظمة الرئاسية او البرلمانية او الملكية الدستورية، وإن كان غاية الطموح هو في تشكيل الدولة الاسلامية الواحدة في العالم، دون حدود مصطنعة ولا فوارق بين الشعوب الاسلامية، كما دعا الى ذلك سماحة الامام الراحل في عديد مؤلفاته وشدد عليه في احاديثه طيلة سنوات حياته، انما هي ثقافة حضارية تصلنا بالعهد الذهبي الذي عاشه المسلمون في تجربتهم السياسية الرائدة في ظل وجود النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وبعد حوالي ربع قرن في ظل حكم أمير المؤمنين، عليه السلام. وتحفل كتب السيرة عن نماذج عديدة من استشاره النبي والامام، عليهما السلام، لاصحابهما في مسائل الحرب والسلم والادارة، قبل اتخاذ القرار النهائي.
هذه الثقافة هي التي تضمن تحقيق المفاهيم الحديثة الدارجة اليوم، مثل "المشاركة السياسية" و"التداول السلمي للسلطة"، ولنا امثلة عظيمة في مجال تكريس الثقافة الديمقراطية بشكل حقيقي بما يخدم الصالح العام. منها المشورة التي اجراها قائد "ثورة التنباك" قبل إصدار فتواه الشهيرة ضد احتكار التبغ من قبل شركة بريطانية، فرغم انه كان زعيم الحوزة العلمية، والقائد الديني الاعلى في البلاد الاسلامية، الا انه امضى حوالي اسبوعين او اكثر، كما تذكر المصادر، وهو يستشير العلماء في سامراء وغيرها في كيفية مواجهة التحدي الاستعماري الجديد، بما يضمن حقوق الناس ولا يعرضهم للأذى او ربما لإراقة الدماء، وقد صدرت الفتوى، بعد ضمان نجاحها وانتصار الشعب الايراني –حينها- في معركة الكرامة والحفاظ على الثروة الوطنية. وكذلك الحال بالنسبة للتحدي الفكري الذي تعرض له العراق، فقد صدرت الفتوى الشهيرة ضد الإلحاد، بعد سلسلة مشاورات ومداولات بين المرجع الديني الاعلى في زمانه السيد محسن الحكيم، والمرجع الديني الراحل في كربلاء المقدسة، السيد ميرزا مهدي الشيرازي. وهذا تحديداً ما جعل التصدّي الاجتماعي والثقافي والعلمي، قوياً وشديداً بوجه الافكار الغريبة الوافدة، وتم الكشف عن زيف الشعارات والادعاءات التي راجت آنذاك، على يد العلماء والكتاب والخطباء والمثقفين وعموم شرائح المجتمع.
من هنا فان سماحة الامام الراحل يسلط الضوء على هذه النقطة تحديداً في كتابه "الصياغة الجديدة"، مؤكداً على "الاستشارية" كمبدأ لنظام الحكم الناجح، فـ "الاستشارة هي إحدى موازين الحاكم الصالح بأن يستشير في كل شيء". والاستشارة هنا، ربما تكون موجهة الى مجلس شورى المراجع، او شورى الفقهاء في هذا البلد او ذاك. ويورد سماحته مثالاً في تجربة من احد الحكام المسلمين الذين هُزم جيشه امام عدوه، وكان قد دعا فقهاء وعلماء ذلك البلد بالدعاء له، فكان الجواب: بأن الفساد والديكتاتورية من قبلك، والسكوت على ذلك من قبلنا هو الذي منع من استجابة الدعاء، مستشهدين بحديث النبي الأكرم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر او ليوشك ان يسلط الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم".
إذن؛ "شورى مراجع التقليد" يكتسب مصداقيته العملية في الكلمة المسؤولة والشجاعة في اللحظات الحاسمة، وربما يكون لهذه الكلمة وذاك الموقف ثمناً باهظاً، بيد ان من يروم الإصلاح ويتطلع الى البناء الحقيقي في البلد والامة، يفترض ان يضع كل الاحتمالات في الطريق. وكان أول من تنبأ بحصول هكذا حالة، هو شخص النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في حديث مروي عنه: "...ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب". وقد بين، صلى الله عليه وآله، في هذا الحديث لمستمعيه من الاصحاب والاجيال القادمة، ما عليهم فعله عندما لا يقضي الحكام بغير ما انزل الله، وأجاب على سؤال احد الاصحاب: ماذا نصنع؟ فاجاب: "كما صنع اصحاب عيسى، نشروا على المناشير، وحملوا على الخشب، والذي نفسه بيده لموت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله".
هذه الكلمة الشجاعة والرأي السديد تكون مؤثرة من عالم دين، ويشهد لذلك التاريخ الحديث والقديم، فما بالنا اذا كانت من اكثر من عالم ضمن مجلس شورى العلماء والمراجع، فهكذا مجلس من شأنه ان يشكل قوة سياسية واجتماعية هائلة بإمكانها تقويم العديد من الانحرافات في ميادين الاقتصاد والسياسة والامن والقضاء وغيرها من شؤون الدولة. وهذا النجاح من شأنه ان يتحول الى نموذج ناجح وجاهز لملامسة الطموح الكبير بتشكيل الدولة الاسلامية الواحدة القائمة على "الديمقراطية الحقيقية" وإحياء الأمل في النفوس بتحقيق هذا الهدف الكبير الذي طالما راود اذهان علماء الدين والمفكرين وايضاً ابناء الامة طيلة السنوات الماضية.
اضف تعليق