في ظروف الحرب والمواجهة الساخنة، من الصعب الحديث عن أي شيء سوى التعبئة للقتال والدعم المادي والمعنوي وتعزيز الجبهات ضد الاعداء، حيث تكون المشاعر جيّاشة قبل القوات المتجحفلة، عندما تكون وراء هذه الحرب دوافع سياسية واهداف استراتيجية، فترفع الشعارات العريضة والضخمة، تجعل من المشاركة في الحرب أمراً مصيرياً لا مفرّ منه.
وهذا ما ابتليت به شعوبنا منذ عقود من الزمن، فالحروب التي خاضتها – بغض النظر عن الدوافع والاسباب - تسببت في إلحاق خسائر فادحة بالأرواح والامكانات، وحالت دون ارتقائها مدارج التطور العلمي والتقدم في المجالات كافة، لان الرؤية في زمن الحرب كانت بمنظار عسكري بحت، فقد كانت لدى الجندي والضابط والقائد العسكري، كما كان لدى رئيس الجمهورية والوزراء، وايضاً كان لدى المسؤولين المحليين والخدميين، وحتى دوائر الماء والكهرباء والصحة والتعليم، بل وحتى الجامعات والمراكز التعليمية والبحثية. ولعل رائد هذه النظرية كان الزعيم المصري الراحل "جمال عبد الناصر" في مقولته الشهيرة: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وتبعه في ذلك زعماء في السنوات الاخيرة هتفوا بأن "همّنا الأول، الحرب".
مع ذلك، بعض الشعوب في العالم، استفادت من ظروف الحرب للإعداد للمرحلة اللاحقة، بمعنى انها جعلت من الحرب، على الرغم من ظروفها الصعبة وانعكاساتها، محطة في مسيرتها التنموية والاصلاحية، بغض النظر عمّا اذا كانت هذه الحرب قد اشتعلت بسبب من حكامها، كما هو الحال في اليابان والمانيا، او كانت مفروضة عليها في مثال كوريا الجنوبية والصين، ولم تتوقف عند حالة الحرب والمواجهة وتتخذ منها ثقافة مجتمعية تعبّئ الصغير والكبير ضد اعداء ربما يكونوا وهميين، عندما تعقد اتصالات وصفقات خلف الكواليس للتسوية وتبادل المصالح.
ان الانتقال من حالة الحرب والتوتر وشد الاعصاب، الى مرحلة الانبساط والسلم ثم التفكير بالبناء، ليس بالأمر الهيّن، فهو بحاجة الى ارادة صادقة وهمّة عالية وشعور مرهف بالمسؤولية إزاء الوطن والشعب. واذا نريد مثالاً حيّاً وقريباً، فهذا العراق الذي خبر الحرب والدمار والموت وما يزال، منذ الانظمة الديكتاتورية والقمعية، وحتى النظام السياسي الجديد، ففي الحقبة الماضية، كانت الحروب تنطلق من القصر الجمهوري لتسحق أولاً ابناء الشعب قبل القوات المرابطة وراء الحدود، أما الآن فان الحروب تنطلق من قصور الدول المجاورة هذه المرة، ومن دهاليز المخابرات الاقليمية والدولية. لذا يكون محقاً من يستفهم توقّع البحث العلمي في سبيل تطوير الحياة المدنية وخدمة الانسان والمجتمع في ظل نظام حكم مثل نظام صدام، بيد أن هذا الاستفهام لن يكون مبرراً في الحقبة الراهنة، حيث ان كل فرص التعليم متاحة للجميع، بنين وبنات، بل حتى بات واضحاً الاقبال الشديد من الفتيات على الدراسة الجامعية مع تفوق ملحوظ في المستوى الدراسي، كل ذلك بفضل الاجواء الديمقراطية والحرية التي لم يشهدها العراق في تاريخه الحديث.
من هنا يتأكد لنا ان الحرب المفروضة على العراق حالياً تحت مسميات دينية، لا يجب ان تكون سبباً جديداً لتكريس التخلّف وابعاده عن مسيرة التقدم والتطور في العالم، إنما تكون خير وسيلة لتحفيز المعنويات وشد العزائم لنهضة علمية تقودها الأدمغة والعقول الخلاقة، فاذا كنا نفخر بالمعنويات العالية لدى المقاتلين المرابطين في جبهات القتال ضد العناصر الارهابية في شمال وغرب العراق، فاننا يجب ان نفخر ايضاً بالمعنويات العالية على خط المواجهة العلمية.
وخلال حديث أجريناه مع طالبات جامعيات حول آفاق التعليم بالنسبة للمرأة، قالت احدى الطالبات في قسم الصحافة بكلية الآداب، بأن "الرجل اذا كان يحمل السلاح في جبهات القتال، فان المرأة المتعلمة بإمكانها ان تشارك في الحرب بسلاح الكلمة...". وبنفس هذا الرقي في معنويات هذه الطالبة اليافعة، يمكن ان نسمع هكذا رأي من طالبات في كليات واقسام اخرى. وبالنتيجة؛ ستكون ظروف الحرب الراهنة بمنزلة القاعدة التي يصنعها الناس للانطلاق نحو فرص التقدم والتطور.
وعندما تكون الهمم بهذا العلو، تكون الدولة ومسؤولوها ملزمين بتوفير كل الاجواء المناسبة والامكانات المتاحة لبناء القاعدة الاساس لنهضة علمية في المجالات كافة، وتقع المسؤولية مباشرة هنا على وزارات الصناعة والزراعة والتخطيط والنفط لتفعيل مشاريعها التنموية بالاستفادة من الطاقات والكفاءات العراقية، وفتح الابواب على مصاريعها للطاقات الشابة والمبدعة لان تقوم بدورها في انتشال الاقتصاد العراقي مما هو عليه من تردي فظيع ينعكس بشكل خطير على الواقع الاجتماعي، حيث ظهرت احصائية مخيفة تبين أن نسبة الفقر في العراق بلغت 25 بالمئة، بمعنى ان ربع الشعب العراقي فقير، وهذا لا يتناسب ابداً مع حجم الطموحات والتحفيزات المشهودة لدى شريحة الشباب الجامعي، مما يستدعي الالتفات اكثر الى هذه القضية في الوقت الراهن واعطائها الاهمية والاولوية مهما كانت الظروف.
اضف تعليق