التعبئة، مفردة، أو مصطلح، غالبا ما يرتبط بتحشيد الطاقات، لاسيما عندما تدخل الدولة في حرب مع أطراف أخرى خارجية او داخلية، كالحروب الأهلية، او المعارضة المسلحة، من هنا توجد تعبئة قتالية عسكرية، معنوية ومادية، وهناك تعبئة في مجالات أخرى، كالتعبئة الثقافية، أو الإعلامية، وما شابه، فالمعنى الواضح والعام للتعبئة، العمل المنهجي والمدروس القائم على الخبرات الصحيحة في تراكم القدرات وتنظيمها، وجعلها عاملا مساعدا ومهماً، من عوامل النجاح، أو الانتصار اذا كان الامر يتعلق بالفعل القتالي العسكري.
أما التعبئة الثقافية وهي محور هذا المقال، فإننا نعني بها أهمية تعبئة المجتمع ثقافيا، وقد يكون الامر متعلقا بالظرف الراهن للأوضاع التي تمر بها بلادنا، ولكن على العموم، تعد الثقافة حاجة مستدامة، لا تتعلق بالظروف الطارئة كالحروب او الصراعات بصورة عامة، وهذا يؤكد الرأي الذي يقوم على أهمية حضور التعبئة الثقافية في جميع الظروف التي تمر بها البلاد، سواءً الاستثنائية منها، أو الاعتيادية، وهذا يعني أننا مطالبون بالاهتمام الجاد بالتعبئة الثقافية بغض النظر عن طبيعة الظروف القائمة أو الظروف الواقعية، فطبيعة الواقع، (مدنية او حربية، طارئة أو اعتيادية)، لا ينبغي أن تلغي الحاجة الماسة للتعبئة الثقافية، لاسيما عندما يتعرض أمن الدولة والشعب للخطر الخارجي او الداخلي.
وتكون الحاجة للتعبئة الثقافية مزدوجة، عندما تمر البلاد في حالة صراع مباشر مع طرف خارجي او داخلي، عندها ستكون الدولة في حالة حرب، وهذا يستدعي اعتماد التعبئة الثقافية بصيغة مزدوجة، الاولى تتعلق بالحاجة الاساسية للثقافة، وهو امر لا يمكن لدولة ما أو شعب أن يتخلى عنها او يهملها مهما كانت الاسباب. أما الصيغة الثانية للتعبئة الثقافية فهي تتعلق بالظرف الاستثنائي الذي تمر به الدولة، عندما تكون في حالة قتال مباشر مع طرف آخر، لاسيما عندما يكون مصدر الخطر، قتالي أو ذا سمة قتالية كالحروب القادمة من خلف الحدود، أو حالات الاحتراب الاهلي الداخلي، إذ تتضاعف الحاجة للتعبئة الثقافية في هذه الحالة، بمعنى أدق، أننا نحتاج الثقافة في أوقات السلم والحرب على حد سواء، لكن حاجتنا لها في حالة الحرب تكون أهم كثير، وقد يقول قائل، ما علاقة الثقافة بالقوة القتالية المادية، هنا يكون الجواب مرتبطا بالجانب المعنوي للقوات المقاتلة وللشعب، فبإمكان التعبئة الثقافية ان ترفع من معدل هذه المعنويات، وهو ما ينعكس على نتائج القتال في ساحة الحرب.
إذن أصبحت لدينا الآن فكرة واضحة عن أهمية التعبئة الثقافية في حالتي السلم والحرب، ولكن هناك سمات ومواصفات مهمة ينبغي أن تتوافر في أهداف التعبئة الثقافية نفسها، والمضامين التي تسعى الى ترسيخها بين أعضاء ومكونات المجتمع، ففي كل الأحوال لا يصح أن تكون الثقافة آنية، خالية من الأهداف العميقة، أو بعيدة المدى، وهذا يحمي الشعب والدولة من مخاطر الثقافة السطحية، وهي ثقافة لا تتسم بالعمق، وتقوم على استثارة العاطفة الجمعية، على نحو آني أو مؤقت، إذ سرعان ما تختفي مظاهر التعبئة الثقافية السطحية.
بينما يحتاج المجتمع والدولة، الى ثقافة ذات بعد استراتيجي، يجعل الثقافة ركنا مهما بل أساسيا في بناء الدولة والمجتمع، وفيما لو تحقق هذا الهدف، وتم الابتعاد عن الموجات التعبوية السريعة المتعجلة التي تفتقر للعمق والتخطيط، فإن الثقافة هنا سيكون لها دورها الكبير في البناء المجتمعي الراسخ، كونه يرتكز الى مزايا ثقافية دائمية عميقة، غير قابلة للزوال، وهو ما ينعكس على السلوك الدائم للفرد والمجتمع، وينعكس ايضا على نشاط الدولة والحكومة وأجهزتها كافة، فالثقافة هي بنية فكرية سلوكية تنعكس على حياة الدولة والمجتمع بوضوح.
لهذا نحن نحتاج الى تعبئة ثقافية تتسم بالعمق وسعة الآفاق، وتنحو الى المنهج الاستراتيجي، بدلا من توظيف الثقافة مرحليا أو آنيا، وحصر أهدافها في المجال السطحي، حي تزول آثارها بزوال الاسباب الطارئة او الآنية، بينما ينبغي علينا الشروع بتعبئة ثقافية عميقة وليست طارئة، ويمكن تحقيق هذا الهدف باتخاذ خطوات إجرائية وتنظيمية منها:
- رسم الاهداف الاستراتيجية للثقافة، والخطط الكفيلة بتنفيذ هذه الاهداف.
- لا يمنع إرساء الثقافة العميقة وأهدافها، من التخطيط المرحلي الطارئ لاستثمار التعبئة الثقافية، حسب حاجة الدولة وظروفها، بمعنى ينبغي أن تُعطى الأولوية للتعبئة الثقافية الاستراتيجية.
- ينبغي أن يتم استثمار وسائل البث والتوصيل كافة، لتحقيق وترسيخ المزايا والسمات العميقة للثقافة، وخاصة وسائل الاعلام بأنواعها كافة.
- لا يصح أن تقوم التعبئة الثقافية على الفعل الآني المتسرع.
- اذا كانت هناك حاجة تتعلق بالدعم المعنوي نتيجة لظروف طارئة، كخوض الحرب وما شابه، فإن التعبئة ينبغي أن تتم ضمن الأبعاد العميقة للثقافة.
- لابد للمؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، أن تفهم الفرق بين الآني، وبعيد المدى أو الهدف الاستراتيجي للتعبئة الثقافية، ويتم ذلك من خلال التدريب واكتساب الخبرات، والاطلاع المبرمج على تجارب الأمم الاخرى، التي تمكنت من توظيف الثقافة بما يصب في صالح الدولة والمجتمع.
- وأخيرا.. تعود مسؤولية تحقيق (التعبئة الثقافية الاستراتيجية)، للنخب من العلماء والمفكرين والمثقفين وقادة المجتمع، هؤلاء جميعا مسؤولون عن ترسيخ واستثمار التعبئة الثقافية في جميع الظروف التي تعيشها الدولة والمجتمع.
اضف تعليق