يربط بين الأزمنة الثلاث بأنواعها المختلفة، الماضي، الحاضر، المستقبل، نسيج زمني متداخل لا يمكن إنكاره أو إلغاءه، لأنه كما يؤكد العلماء المختصون، يُحاك وينمو بعملية تشبه دورة خلق الجنين أو إنبات البذرة في التربة، في رحلة التكوين التي تبدأ بالولادة فالنمو ثم الاضمحلال فالفناء، وهذه الرحلة الزمنية المستديرة، قد توحي بربط الأبعاد الثلاثة للزمن مع بعضها وهو توصيف دقيق.
فالأزمنة وإن تناقضت مع بعضها في الاتجاه، لكنها بالنتيجة قد يدعم أحدها الآخر، وينطبق هذا على رحلة الإنسان في الحياة، فكل فرد فينا له مثلث زمني يبدأ بالولادة، ثم يتكوّن معه في رحلة حياته، كذلك الأمم والدول، والعالم الذي نعيشه اليوم، فعالمنا محكوم أيضا بأبعاد الزمن المذكورة، وعالم الأمس حتما لا يشبه عالم اليوم، كذلك عالم الغد من المحال أن يشبه عالم اليوم، إذ هناك اختلاف بين الأمس واليوم والغد، استنادا إلى اختلاف الوقائع والمواقف والحوادث والأفكار التي تميّز أحدهم عن الآخر، ولكن هذا الاختلاف لا يمكن أن يلغي النسيج المتداخل والرابط بين الأبعاد الزمنية الثلاثة، كونها نسيج زمني متداخل يُصعب الفصل بين أجزائه.
ومع تناقض أبعاد الزمن، لكن يبقى التأثير المتبادل قائما باستثناء الماضي الذي لا يمكن التأثير به كونه مضى وانتهى، أما الحاضر فهو عرضة لتأثير الماضي، والمستقبل يمكن أن ينبني تبعا لخطوات الحاضر، وهكذا لا نخطئ إذا قلنا، أن الماضي له تأثيره في الحاضر، وقد يتخذ هذا التأثير منحى مباشرا أو غير مباشر، فعندما يقول العلماء والفلاسفة، إذا صحَّ ماضيك صحَّ حاضرك، هم لا يخطئون في هذا التشخيص، فالمنطق العلمي والمعنوي يقول، إذا كانت الأسس سليمة ستكون النتائج سليمة أيضا، والأسس هنا تمثل الماضي، أما النتائج التي يعيشها الإنسان والدولة والمجتمع، فهي تمثل الحاضر، هذه الأقوال والآراء باتت من البديهيات التي لا يختلف عليها اثنان حتى لو كانا من مدرستين مختلفتين، ولكن قد يكون هناك اختلاف إذا حاولنا أن نثبت بأن المستقبل يمكن أن يؤثر في بناء الحاضر!، ومع ذلك فإن مثل هذه الفرضية الغامضة حاول بعضهم أن يثبتها بالبرهان، لكن العقل لا يمكن أن يستسيغ تأثير المستقبل بالحاضر، في حين يقبل بالعكس.
العلاقة بين الأبعاد الزمنية
لهذا لا يمكن مع هذا التناقض المنطقي القبول بهذا الرأي أو هذه الفرضية، كما أن البعض من المعنيين يصر بأنه لا يرى أي تأثير للمستقبل في الحاضر، لسبب واضح وبسيط حسب رأيهم، لأهم يقولون إذا كان المستقبل في غيب القادم من الأزمنة، فإنه لا يزال مجهولا، فكيف يمكن أن يكون له تأثيره في الحاضر، أو بكلمة أخرى، كيف يمكن أن يؤثر شيء ما في شيء آخر وهو لم يولد بعد، وبعضهم استند في رفضه لتأثير المستقبل في الحاضر بمقولة أو قول مأثور ينص على: أن فاقد الشيء لا يعطيه!. فهل يا تُرى لا يوجد تأثير للمستقبل في الحاضر؟، بالطبع كثيرون من ينفون مثل هذا التأثير العكسي، فالحاضر يمكن أن يؤثر في المستقبل وليس العكس، ومع كل هذا حاول آخرون أن يثبتوا تأثير المستقبل (غير المولود) في الحاضر المدرَك والملموس.
وقد يتحلّى بعضنا بالرؤية الحدسية ليعلن موافقته على تأثير المستقبل بالحاضر، وقد يقول نعم إن هذا الرأي ينمّ عن شيء من هذا القبيل، وقد يعلن أحدهم القول بأن البعد الزمني للمستقبل يمكن أن يؤثر في البعد الزمني للحاضر، واستنادا إلى هذا القول، يمكن أن يُسهم المستقبل في صناعة الحاضر، ولكن كيف يتم ذلك، وما هي خطوات أو آلية هذا التأثير للمستقبل في الحاضر وكيف يتم؟، إن الإجابة عن هذا التساؤل سيكون الغرض منها أولا، إظهار أهمية الاهتمام بالمستقبل طالما كان له تأثيره في صناعة الحاضر، وهذا يثبت بعض الطموحات أو التطلعات التي تكنّها بعض العقول أو المجتمعات ومنها:
خاصية حب التطور الفردي أو المجتمعي، فليس هنالك فرد أو مجتمع لا يتحلى بالطموح حيث تطمح الشعوب والأمم إلى التطور والازدهار والتفوق دائما، وهذه صفة أو سمة أو خصلة موجودة في البعد التكويني للإنسان، بل حتى الكائنات الأخرى تطمح للتطور وتعمل على أن تكون حياتها أفضل وإن كانت لا تملك العقل، بل غرائزها تدفعها مثلا إلى تأمين حياة أفضل لها وأجيالها القادمة، لذلك عندما نقول إن الشعب أو الأمة سوف تخطط لمستقبل أفضل وأكثر رفاهية، وتحاول أن تصنع مستقبلا جيدا أو زاهرا لها، فليس هناك شيء جديد في هذا الرأي أو القول؟ كونه يدخل في طبيعة الإنسان وتكوينه، ولكن يبقى التساؤل هنا، كيف يمكن للإنسان، الفرد والأمة أن يبني مستقبلا متفردا، هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يُجاب عنه بدقة وتحديد علمي لا يجافي الحقائق؟؟.
البناء المثالي للمجتمع
وحين يفكر ويسعى الفرد أو المجتمع لإنتاج هدف معنوي أو مادي معين، فإنه سوف يهيئ مستلزمات هذا الصنيع، لذا فإن الإجابة هنا ستأتي واضحة، فعندما تحاول أن تبني شيئا متكاملا متميزا يتسم بالمثالية، عليك أن تؤسس لذلك بصورة مثالية أيضا، من الناحيتين العلمية والعملية، والنظرية والتطبيقية، هنا سوف يكون الحاضر هو نقطة الانطلاق لبناء المستقبل أو القاعدة والركيزة الأساسية التي نبني عليها مستقبلنا، وعندما تكون قاعدة وأسس البناء التي ننطلق منها نحو المستقبل قاصرة أو رديئة أو غير متكاملة، فإننا في هذه الحالة نجازف بصناعة مستقبل معتّل أو مريض، كوننا ننطلق من ركائز أو أسس مشوّهة، وعندما تكون الأسس غير سليمة، لا يمكن أن ننتظر منها نتائج سليمة، ولكن ما هي المنصة الآنية التي ننطلق منها إلى صناعة مستقبل متميز؟، إنه الحاضر حتما.
وإذا صحّ ذلك، وهو صحيح بالفعل، إذ لا يمكن الانطلاق إلى مستقبل جيد ما لم نجعل من الحاضر منصة انطلاق جيدة، لهذا نحن نرى في الحاضر كقاعدة انطلاق نحو المستقبل، ولهذا ينبغي علينا جميعا، وأولنا أصحاب القرار، وقادة النخب وأعضائها، والوجهاء والشخصيات، وأولي الأمر وغيرهم، أن نجعل من ركيزة أو منصة الانطلاق متميزة وقادرة على رسم وصنع المستقبل المزدهر، وهذا ينبغي أن يدفع بنا إلى صناعة نقطة انطلاق آنية جيدة تصلح أن تكون موائمة لصناعة مستقبل جيد ومتميز، إذاً هنا نلمس تأثيرا للمستقبل في الحاضر، وهو تأثير مهم وواقعي ومنطقي أيضا ولا يمكن أن ينفيه من يجعل من المنطق معيارا لفرز الصحيح والخاطئ عن بعضهما.
بالنتيجة هذا الاستنتاج يحدونا جميعا كي نركّز على أهداف قياسية، أهمها أن نبني حاضرا يصلح بصورة محسومة لصنع مستقبل يليق بأجيالنا القادمة، وبهذا نحن جميعا سنرى ونلمس ذلك التأثير الحيوي للمستقبل في صناعة الحاضر، وهو ما ينبغي أن يفكر فيه المعنيون بصورة حاسمة، والمعنيون هنا هم المشاركون في صناعة القرار وإدارة ثروات البلاد، مضافا إليهم جميع النخب وقادتها والمنظمات المتنوعة، فالجميع عليه أن يبني حاضرا عظيما كي يكون منطلقاً لبناء مستقبل أعظم.
اضف تعليق