لم يأتِ نجاح المجتمعات بضربة حظ، ولا يأتي اعتباطا، وإنما هناك ركائز وقيم هي التي تدفع بالمجتمع نحو التكامل والنجاح، والثلاثي المتماسك من القيم الثلاث الأمانة، الثقة، الاحترام تمتلك مفعولا هائلا في حثّ الإنسان الفرد والجماعة على التماسك، والذهاب معاً من القعر الى القمة، فالأَمانَةُ لغةً هي الأمن والأمان أي الوفاء، والأَمانَةُ هي الوديعة، وإذا قيل أن فلاناً أمين، أي أنه وفي لا يتعدى على حق الغير، والأمانة اصطلاحاً هي كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه.
أما الثقة فهي عماد العلاقات القائمة بين الناس، فإذا توافر عليها المجتمع، هذا يدل على تماسكه وتبجيله للقيم البنّاءة، والثقة تتضمن عدم الشك في اعتقاد الشخصية الجيدة, سواء في النوايا أو الأخلاق ولا يلزم أن تكون الثقة موجودة عند الأشخاص من ذوي الأخلاقيات العالية والنوايا الحسنة فقط، بل من الواضح أن الأشخاص المتورطين في الأعمال الإجرامية عادة ما يثقوا في بعضهم البعض، وهذا يثبت على أن الثقة تستدعي تشارك الناس في أنشطة تدرّ عليهم الأرباح والفوائد، أي المصلحة، لهذا تتجدد الثقة وتقوى وتنمو عندما تقود الناس الى النجاح فيما يخططون له.
وغالبا ما تتخذ الثقة طابعا يطغي عليه التفاهم المتبادل لذلك توصَف بأنها تدعم الاستنتاج القائل بأن الثقة تعني توقّع النوايا الحسنة, وهي مبنية على معرفة المرء بالإنسان الآخر، ولذلك تمثل درجة اطمئنان الإنسان للآخر كما ينص علم الاجتماع أو علم النفس على ذلك، فتصبح الثقة هي درجة ثقة الشخص في الآخر، وأنها تشكل معيار إيمان الإنسان بالآخر وتصديقه بما يعده من وعود.
ويحذر العلماء المختصون في الاجتماع وعلم النفس من فقدان الثقة كرابط أساس بين النسيج المجتمعي لما له من تداعيات خطيرة، لذلك بناء على معظم الأبحاث الحديثة, فإن فشل وانهيار الثقة لدى مكونات وأفراد المجتمع من الممكن أن يتم مسامحته بسهولة إذا كان الفشل ناتجا عن ضعف في القدرة، ولك ستكون النتائج وخيمة إذا أصيب المجتمع بقلة في الأمانة أو ضعف في الصدق، كون هاتين القيمتين تشكلان الروابط الأهم بين أفراد المجتمع.
أما قيمة الاحترام فهي عبارة عن ثقافة وسلوك المجتمع حيث يعكس بيئة كل شخص، وينبغي أن نفهم بأن هذه القيمة والثقافة والسلوك غير محصور بالعمر ولا بالجنس أو اللون، أي أن الصغير يجب أن يحترم الكبير والكبير أيضا يجب أن يحترم الصغير، فليس مهماً أن تحب كل الناس ولكن واجبك أن تحترمهم جميعاً، لأن الاحترام يسهم مع القيمتين الأمانة والثقة في تدعيم البناء المجتمعي وجعله قويا لن يتعرض للتصدع أو الانهيار.
ما أسباب فقدان القيم الثلاثة؟
بالطبع تقف أسباب كثيرة وراء انعدم هذه القيمة المسؤولة عن نجاح أي مجتمع، ومن هذه الأسباب، نشوء الإنسان وترعرعه في بيئة لا تعمل بالأمانة لأنها لا تعبأ بها ولا تعني لها أي شيء، وعندما تندثر الأمانة بسبب عدم منحها الاهتمام الكافي، فإن هذا سيكون سببا كافيا لفقدان الثقة، وهذه الأخيرة تقود المجتمع الى ضرب القيمة الأهم وتهشيمها، ونعني بها الاحترام، فغياب الأمانة يقود الى ضعف الثقة المتبادل أو انعدامه كلّيا، وهاتين القيمتين عندما تندثران فمن المحال أن يحصل احترام بين أفراد المجتمع.
وبهذه الطريقة سنصل الى نتيجة مؤداها مجتمع ضعيف مهزوز غير واثق من نفسه، تتلاعب به السياسات الخبيثة، وتلعب به يمينا وشمالا، ويصبح فاقدا للرأي، لاهثاً وراء الثقافات الوافدة، مقلّدا لها، رائياً فيها نموذجا ينقذه من حياة التعاسة التي تحاصره، بسبب انعدام الثلاثي القيمي (الأمانة، الثقة، الاحترام)، ولهذا نلاحظ أن جميع المجتمعات الفاشلة، مصابة بفقدان شبه تام لهذه القيم الثلاث، وعلى العكس من ذلك تماما، فإن المجتمعات الناجحة، وعت قدرة هذا الثلاثي فذهب في هذا الاتجاه وطورت الثقاة بين أفرادها ومكوناتها، فكانت النتيجة الأهم هي الاحترام الراسخ والكبير بين الجميع من دون استثناء يُذكَر.
وقد لوحظَ أن فقدان إحدى قيم الثلاثي المذكور، سوف يؤدي حتما الى فقدان ما تبقى القيم الثلاث، ولذلك لا يمكن أن تجد مجتمعا أمينا وغير صادق في نفس الوقت، أو لا يمكن أن نجد مجتمعا صادقا وفي نفس الوقت لا يتعامل أفراده ومكوناته مع بعضهم بقيمة الاحترام المتبادَل، فأي انعدام أو ضعف لواحد من هذا الثلاثي سيؤثر بقوة ويدفع باتجاه انعدم القيمتين الباقيتين، من هنا جاء تشديد علماء الاجتماع بأهمية أن تؤخَذ هذه القيم الثلاثة في سلة واحدة، ولا يجوز التركيز على واحدة وإهمال الاثنتين، بل لا يصح إهمال واحدة من القيم الثلاث المذكورة، لأن ذلك سيؤدي الى انهيار شامل لمنظومة القيم التي تدعم البناء المجتمعي وتزيد من تماسكه.
كيفية حل هذه المعضلة
ثمة سبل عديدة كفيلة بحل مشكلة تفشي عدم الاحترام والكذب وضعف الأمانة لدى المجتمعات الفاشلة، فيعد أن عرفنا الأسباب التي تدمر تماسك هذا الثلاثي القيمي، علينا (ونقصد هنا المؤسسات والجهات المسؤولة عن صيانة القيم في المجتمع)، التصدي لأسباب الضعف في الثلاثي المذكور، وهذا يستدعي وضع إستراتيجية أخلاقية بعيدة المدى، يتناولها أفراد المجتمع كجرعات متواصلة على امتداد العمر، على أن تكون الجرعة الأخلاقية أو الثقافية تناسب المستوى الذهني للفرد، إذ من غير الجائز أن نعطي ما يناسب الكهل الى الطفل الصغير أو الصبي الى الكهل.
على أن يكون العمل في هذا الاتجاه جماعيا مشتركا مدنيا وحكوميا، والكل ينبغي أن يتحرك وفق الخطوات التي تتضمنها الإستراتيجية بعيدة المدى، والموضوعة من لدن لجان تضم خبراء اجتماع وعلم نفس، لهم الباع الطويل، والخبرة الكبيرة، والمعرفة الموسوعية، على أن تكون ممكنة التطبيق وسهلة المحتوى، ومن هذه الخطوات أو المقترحات التي تصب في هذا الاتجاه ما يلي:
- تعليم الأسرة بأهمية دورها الجوهري التربوي وسعيها لغرس الثلاثي (الأمان، الثقة، الاحترام) في نفوس الأطفال صعودا الى الفئات العمرية الأخرى.
- تحويل الأمانة والثقة والاحترام الى ثقافة عامة وسلوك اجتماعي شامل، يعتاد عليه أفراد المجتمع كما يعتادون على تناول الغذاء، أو النوم، أو الملبس وسوى ذلك من عادات سلوكية.
- يجري الشيء نفسه في المراحل الدراسة كافة، على أن يبدأ بقوة في المراحل الابتدائية، لأن هذا يعني تخريج طلاب ابتدائية مؤهلين في المراحل القادة والأعمار الأكبر للتعامل في علاقاتهم الاجتماعية وفق هذه القيم.
- أن يشترك ويتعاضد الجهد الحكومي والأهلي (مؤسسات ومنضمات وجامعات وجمعيات خيرية)، لكي يتم تطعيم أفراد المجتمع بالقيم الثلاث المذكورة، لضمان بناء مجتمعي ناجح.
- ينبغي أن تشتمل هذه الإستراتيجية على أدق التفاصيل، ويتم نشرها وتوزيعها على كل الجهات التي يهمها الأمر وتقع عليها مسؤولية نشر هذه الثقافة بين أعضاء المجتمع دون استثناء.
- أن يشترك الإعلام بكل مؤسساته ومنظماته وأشكاله في تعميم ونشر ثقافة الأمانة والثقة والاحترام بين أفراد المجتمع، وإطلاق حملات إعلامية مدروسة وحثيثة في هذا الاتجاه لكي تكون النتائج المرتقبة مضمونة.
- وأخيرا، ينبغي أن تكون هناك برامج موضوعة ومكتوبة واضحة المعالم تعمل في ضوئها جميع المؤسسات والمنظمات المشمولة بهذه المسؤولية، مع متابعة ومراقبة الأداء ونتائجه في المضمار الاجتماعي.
اضف تعليق