يحفل التاريخ البشري بأحداث مأساوية خلفت تراكمات كبيرة في حدود النفس البشرية الجمعية حيث شرخت العمق الداخلي ورسخت ثقافات سلبية لازالت مشتعلة لحد هذا اليوم. فقد كان محور التاريخ هو تلك الصراعات العنيفة الدامية التي خاضتها المجتمعات والأمم والأفراد لتفوق الوصف والخيال في وصفها حتى تقترب إلى مرحلة الجنون، فالتاريخ البشري تاريخ مجنون كتب بالدم وخط بالسيف وصحف بالأشلاء وسطر بالمقابر.
هذا الصراع لاشك انه يعبر عن حقيقة مأساوية تصطبغ بها النفس البشرية وهي ان معظم الأمم والمجتمعات والبشر لا يستطيعون ان يحققوا تعايشا مسالما مع إخوانهم البشر في ظل التوافق والتصالح والعدالة، مع ان تأملاً فطرياً بسيطاً يجول في خاطر كل إنسان يستغرب من عدم قدرة الإنسان على تحقيق هذا التعايش البسيط الذي استطاعت بعض الحيوانات ان تحققه بغريزتها.
قد يعبر الصراع البشري المستنزف عن صراع على المصالح أو نزاع على الأرض أو استغلال للقوي على الضعيف وهو صراع قد يبرره بأنه صراع تفرضه غريزة حب البقاء أو قانون البقاء للاصلح، ولكن الأخطر من ذلك على مر التاريخ هو الصراع الذي تلون بالأيديولوجية فصبغ معاركه بالمبادئ والقيم لتصبح سيفا يقلم رؤوس المخالفين والمعارضين على مذابح المعابد فيأكله حلالا طيبا. وهذا هو أسوء الصراعات البشرية التي تكتنه بالعنصرية والعرقية والقومية والدينية والطائفية فيصبح القتل هو مبدأ بحد ذاته يجتزئ الآخرين بدون هوادة.
لقد خلفت تلك الحروب المأدلجة ذاكرة سوداء متشائمة في التاريخ كان آخرها حربين عالميتين كانت دوافعها عرقية وعنصرية، وهذه الذاكرة تخاف ان تفتح أوراقها وتتصفح دفائنها وهي تواجه أخطر أسلحة مدمرة يمكن أن يحملها البشر لتدمير أنفسهم تدميرا مشروعا مبررا.
ان القراءة التاريخية لمعظم الأمم والحضارات تعطينا نتيجة واضحة وهي ان الأمم التي استطاعت ان تتقدم وتتطور وترتقي سلم الحضارة هي الأمم التي استطاعت ان توجد حالة التجانس والتعايش والتفاهم بين مختلف الفئات والقوميات والطوائف والأديان وفي مختلف جوانبها النفسية والاجتماعية والسياسية بحيث كتب لها البقاء التاريخي على مرور الأجيال لقدرتها على تحقيق الوفاق الإنساني والسلام العام. والامة الإسلامية التي أنشأها رسول الله محمد(ص) شاهد حي لازال يزخر بنماذجه الرائعة. وهكذا أمة فإنها تستطيع ان تجمع النسيج البشري في إطر متوافقة من اجل البناء المشترك والحياة السليمة والعدالة العامة بعيدا عن الحرب والقتل والعنف.
أما الأمم التي غرقت في صراعاتها وخلافاتها السلبية فقد تحولت إلى فتات مهمش لا يقوى على تجميع أجزائه حتى تقضي عليه قوانين التاريخ القاسية، وقد رأينا كيف سقطت الأمم عن عليائها نتيجة لذلك التعصب والتمرد ضد الآخرين بحيث تتحول حياة تلك الأمة إلى جحيم ملتهب لعدم قدرتها على التفاهم والتعايش.
ان قدرة أي أمة في تحقيق قوتها ورقيها هو في قدرتها على استيعاب الآخرين وضمهم في مسيرتها وتحقيق الوفاق الجماعي الشامل.
وان عجز أي امة يتبين من نبذها للآخرين وتشتيتها لأفرادها واختيار تقطيع اوصالها لكيانها عندما ترفض مبدأ التوافق.
لان التعامل الإيجابي والمتفهم مع الآخر الفكري أو المذهبي أو الديني أو القومي.. هو العنصر الأساسي في حركة التاريخ المتقدمة نحو المستقبل، اذ ان حركة الإنسان لا تتكامل عناصرها بشكل عملي إلا بتكامل الجسم الإنساني العام، فالإنسان لوحده لا يشكل إلا وجودا يمثل وجها واحدا والوجه الآخر هو الإنسان الآخر الذي يمثل البعد الآخر المكمل للوجود الإنساني.
وإذا كنا قد بحثنا سابقا دور الحرية في التقدم ودور الاستبداد في التخلف فإن قضية الآخر تمثل النتاج العملي لهذين الدورين، فالاستبداد رفض للاعتراف بالآخر وتوكيد على سلطة الذات المطلقة، والحرية هو اعتراف بوجود الآخر لأنه لا معنى للحرية مع عدم قبوله وانكاره.
ان الإطار المنهجي لبحث حركة التاريخ نحو المستقبل يتكامل عندما نخوض بحث مشروعية الآخر نظريا وواقعيته عمليا. ذلك ان الحياة الإنسانية قائمة على تحقيق التكامل الاجتماعي المتنامي عبر التواصل البشري والانفتاح الفكري والتلاقح العقلي والعلمي والتبادل التجاري والتعايش السياسي، فمع الانغلاق الإنساني على ذاته وقوقعته يتخلف عن أهم قواعد التاريخ التقدمي وهو التواصل والانفتاح.
الآخر قد يكون قريبا جدا مثل الذي يتشارك مع آخرين في عمل أو جماعة أو اتجاه، وقد يكون بعيداً ولكنه قريب باعتبار آخر مثل الذي ينتمي إلى جماعة أخرى ولكنه ينتمي إلى نفس المجتمع، وقد يكون بعيداً حيث ينتمي إلى مجتمع اخر، وقد يكون ابعد مثل الذي يعيش في إطار أمة أخرى أو دين آخر.
وفي كل الحالات فان التعامل مع الآخر لا يعتمد على مستوى البعد والقرب بل ينبع أساسا من السلوك النفسي والاجتماعي للفرد، فالانغلاق الذاتي للفرد والتربية الثقافية إذا افرزت سلوكا سلبيا فان التعامل سيكون سلبيا مع كافة المستويات باعتبار ان السلوك يتشكل من خلال التراكمات النفسية والثقافية والفكرية، واذا كان إيجابيا فينعكس ذلك على القريب والبعيد بلا استثناء. لذلك نرى المجتمعات أو الأفراد المتصادمين ينعكس تعاملهم السلبي مع الآخر في صراعهم حتى مع أقرب الرفاق إليهم في المبدأ والعمل. فإنكار ورفض الاعتراف هو بحد ذاته سلوك صدامي عام يصدر من خلال القنوات النفسية والثقافية والعقائدية للفرد، فهكذا فرد يبقى عاجزا عن التفاهم عن أي كائن لأنه يبقى تحت سيطرة روحه التصادمية. وفي الطرف الآخر فان الفرد المتسامح والايجابي نراه قادرا على التواصل مع الآخرين والانفتاح عليهم على كافة المستويات.
اضف تعليق