إن حركة النهضة التي تعتمد على محور الإرادة والعقل تبدأ من خلال الحركة الذاتية للأفراد، أي ان المجموع بحد ذاته لا يوجد فيه إرادة جماعية تنشأ بشكل جماعي، بل الارادة الجماعية تنشأ عبر وجود ارادات فردية تحس بالواقع الذي تعيشه احساسا عقلانيا صادقا وتأخذ على عاتقها الهم الجدي بالتغيير فتنشر تموجاتها في المجتمع خالقة تيارا عاما يسير نحو التغيير.
وهذا هو الدور الذي تمثل به الأنبياء في بناء حضارات وأمم صالحة بان بدأوا بأقلية مستضعفة تحولت الى حركة اجتماعية عامة.
فلا يمكن إيجاد نهضة فاعلة وقوية الا عبر خلق إرادة جماعية والإرادة الجماعية لا تتحقق الا من خلال إرادة فردية تبدأ بإثارة الهموم ونشر الوعي وتحريك الإرادة الاجتماعية العامة، لذلك تحيى الأمم وتنتعش عندما يتصدى لأمورها أفراد وقيادات تمتلك الوعي والحكمة والإرادة للتحكم بالأحداث وقيادة الأمة، وتنهار الأمم وتموت عندما تنطفئ جذوة الحركة والفكر والإبداع في أفرادها ونخبها، وخصوصا عندما تنغمس النخبة في الواقع الاجتماعي المر وتنهار أمام ضغوطات الحياة وتذوب في التيار الاجتماعي العام وتستسلم لقدرية التاريخ.
اذ ان كثيرا من الأفراد والنخب تحس بصعوبة عملية التغيير وانه لايمكن إيجاده مع أزمات الواقع وتعقيدات الظروف وينمو فيهم الإحساس بان المجتمع أقوى من ان يؤثر فيه أفراد أو نخبة او جماعة.
وعندما تنهار النخب وتضيع في غمار الربح والسمسرة والمصالح الخاصة يفقد المجتمع تأثيراته النشطة ويسيطر عليه الخمول العقلي والفكري ويصبح مستعدا وقابلا للارتماء في أحضان الاستعمار.
وفي الحديث: اذا فسد العالِم فسد العالم. لان العالم هو المثال المحرك والفاعل للقيم الأخلاقية والدينية في المجتمع فإذا انهار وتخلى عن القيم انهار المجتمع وفقد مبرراته الأخلاقية والإيمانية. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج: (ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها.. الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم).
ان أهم عنصر في التاريخ إنما هو في سلسلة التغييرات العامة المتواصلة التي تحدث في الاستعدادات الفردية التي هي العلة في وقوع الأحداث، ذلك ان اغلب الناس يجدون صعوبة في فهم السنن الكونية والأحداث الماضية فهما جيدا. فحركة التغيير في التاريخ وتجديد الأمم لا يرتبط بالحركات التي تحمل طابع المجموع لان هذه الحركات الجمعية ليست إلا ردود أفعال غير واعية نشأت تجاه الأحداث الخارجية، لذلك تزول هذه الحركات بسرعة وتندثر وينساها التاريخ ولاتخلف وراءها الا الآثار السلبية والأضرار التي تصيب الكيان الاجتماعي والثقافي العام، مثل حركة الخوارج في التاريخ. فالمجموع المتأثر والمنفعل لايمكن ان يخلق حركة عقلانية حكيمة لانه يتحرك على ضوء مصالحه الآنية وتهييج الماكنة الإعلامية والدعائية التي تضغط على فكره وعقله وتحجمه بحيث لا يستطيع ان يفكر إلا من خلال صيحات الجمهور والتيار الهاتف. وقد استطاعت الأنظمة الشمولية ان تستغل هذا الأمر وتتحكم بالجموع لضرب المعارضين وتهميش الحركة العقلانية الواعية.
لكن الحضارة لايمكن ان تتجدد إلا اذا نشأت في عدد من الأفراد نزعة عقلية جديدة مستقلة عن تلك السائدة بين الجمهور تكتسب التأثير تدريجيا على النزعة الجماعية وفي النهاية تطبعها بطابعها، ولا سبيل للنجاة من الفوضى والهمجية إلا بحركة أخلاقية وعقلانية حكيمة ولاوجود للأخلاق والعقل الا في الأفراد.
أي ان التغيير الحضاري العام يبدأ من خلال تغيير الأخلاقيات النفسية والاجتماعية المتدهورة وتغيير أنماط التفكير الجامدة وتحريك المنهج العقلي والفطري في التفكير والاستدلال، وهذه كلها أمور فردية ذاتية لا توجد في المجموع بشكل عام بل يوجد في كل فرد بحد ذاته. وعندما تتشكل القناعات الذاتية وتختمر الرؤى في عمق النفس يبدأ تشكل الوعي الجماعي الذي يتراكم من خلال الوعي الفردي، لذلك يقول الله تعالى في كتابه الحكيم: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
أي ان التغيير المجموعي لا يمكن حصوله الا بعد ان تتغير نفوس الأفراد وأفكارهم وأخلاقياتهم. فالفرد هو الذي يفكر ويبدع ويتحرك ويريد وينشر تموجاته على المجتمع، والمجتمع هو الذي يكتسب التأثيرات القوية التي يحدثها الأفراد والنخب وبفعل ذلك ينشط ويتحرك. لذلك نرى ان التاريخ صنعه أفراد خلقوا تموجات عميقة في التاريخ البشري لازالت تكبر وتنمو وتتحرك مثل رسول الله محمد والإمام أمير المؤمنين ومثل الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) الذي أوجد وعيا تاريخيا كبيرا لازال يحدث آثاره في نفوس الملايين من البشر على طول التاريخ وهي نهضة واعية قامت على الحكمة والعقل والإرادة في مقابل المجموع الهمجي الضائع بين مصالحه الدنيوية الضيقة واعلام الحكومات المضللة.
ان الحركة نحو النهضة تبدأ عبر كل واحد منا عندما يحس إحساسا واعيا بواقعه يحاول ان يخلق في باطنه وشعوره فهما صحيا للحياة ونظرة بعيدة المدى ويتخلى عن النظرة الضيقة من خلال مصالحه الذاتية ولذاته الآنية. ويبدأ عنده شعور متبصر ان مصلحته الحقيقية هي في المصلحة العامة ومسئوليته الدينية والإنسانية، وعندها يستطيع ان يخلق في ذاته وفي الآخرين إرادة حقيقية وجدية للتجديد والنهوض.
ويجب ان نعلم ان التاريخ وسنن الله في الكون حركة ذات علية وسببية: (ولن تجد لسنة الله تبديلا)، أي ان الأسباب والعلل تنتج نفس الآثار لو تكررت في مكان آخر، فالوقائع لايمكن ان تحدث بصورة مختلفة لو كانت الأسباب نفسها تعمل وتخلق الآثار والنتائج ذاتها. وهذا الأمر لابد ان يوجد فينا التصميم لإيجاد حركة النهضة عبر فهم أسباب وعلل التقدم والنهوض ودراسة تاريخ الأمم والحضارات وفهم أسباب تقدم وتطور الأمم للاستفادة من عناصرها الإيجابية في حركتها.
ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). المائدة48، وفي وصية في نهج البلاغة للإمام علي لولده الحسن عليهما السلام: احي قلبك بالموعظة.. واعرض عليه أخبار الماضيين وذكره بما أصاب من كان مثلك من الأولين وسر في ديارهم أثارهم فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا.
اضف تعليق