q

التجربة الثورية في بلادنا تعرضت لسقطات وهفوات حالت دون تحقيق اهدافها كاملة، على الرغم من الجهود والتضحيات وبعض المكاسب، ذلك بسبب عوامل عديدة، منها ظروف المهجر التي فُرضت على ابناء الحركة الاسلامية، على مستوى القيادة والقاعدة وايضاً النخبة المثقفة والطليعة الرسالية نمطاً جديداً من الحياة، فالمعروف أن المهجر أو "الهجرة" كمفهوم وتجربة تاريخية، تمثل احدى المحطات الكبيرة للانطلاق نحو التغيير الشامل، و أمامنا تجربة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في هجرته الى المدينة، وكيف انه أسس بعيداً عن مجتمعه وبيئته، اول تجربة لنظام اجتماعي وسياسي ناجح، ثم يعود بها الى مسقط رأسه "مكة المكرمة" ومنها يمتد شعاع التجربة الحضارية الباهرة ليصل الى جميع انحاء العالم؟

بيد ان التعامل مع هذا المفهوم المقدس في تاريخنا المعاصر، لم يكن بالمستوى المطلوب، إلا تجربة واحدة ومحدودة بإيران، عندما حققت انتصارها الكبير في الاطاحة بنظام حكم الشاه، من خلال قيادة كانت تتخذ من المهجر (باريس) مقراً لها. لذا لم يحتفظ الشعب العراقي – مثلاً- وشعوب اخرى بذكريات او مكاسب معينة من مفهوم الهجرة او العمل المعارض في المهجر، بدليل أن التغييرات الكبيرة لم تتحقق بتأثير مباشر وبدور واضح لهذه المعارضة التي ادعت تمثيلها للشعب العراقي ولقضيته في استعادة حريته وكرامته، ولكن؛ هناك نقطة مضيئة وسط هذا الظلام، يمكن ان نجدها لهذا المفهوم في التجربة الثورية، متمثلة بشخص آية الله الشهيد والمفكر الاسلامي السيد حسن الشيرازي.

التأسيس والرؤية الثاقبة

لمن عاش تجربة المهجر او سمع عنها، يعرف أن أهم افرازاتها على الانسان المهاجر، انتقاله من عالم وواقع كان يعيشه الى عالم وواقع آخر مختلف، حتى وإن وجد بعض المشتركات، هنا؛ يبدأ تحدٍ من نوع جديد منطلقه نفسي وداخلي، حيث يجد البعض – او الكثير- ضرورة التأقلم مع الواقع الجديد اجتماعياً وسياسياً، وهذا ينعكس تدريجياً على وضعه المعيشي وسلوكه اليومي ثم يتحول فيما بعد الى منهج عمل يترك تأثيره على أدائه "المعارضاتي" وعلى القضية التي من اجلها هاجر وترك وطنه. وأهم سبب في حصول هذه المشكلة، فقدان الرؤية الكاملة والصحيحة للقضية التي يعمل من اجلها، ثم عجز عن استشراف المستقبل على ضوء المعطيات الموجودة، لذا فهو ينتظر المفاجآت دائماً، وهذا ما لم يكن في منهج الشهيد الشيرازي منذ غادر بلده العراق مكرهاً، ملاحقاً من قبل أزلام البعث الذين لم يكن يطاردونه شخصياً فقط، إنما فكرياً وثقافياً، وكانوا يسعون بشكل او بآخر التخلّص منه نهائياً، بمعنى أنه كان يحمل فكراً وقضية ومسؤولية في آن واحد.

ان البدائل الحضارية التي طرحها الشهيد الشيرازي قبل اعتقاله عام 1970، في العمل السياسي والحزبي وايضاً في المجال الاقتصادي والاجتماعي، لم يتركها في العراق او في مدينته كربلاء المقدسة، إنما غادر بها الى المهجر ليعيد طرحها الى العالم هذه المرة عبر خطاب جديد واسلوب آخر، فكان التأسيس من هناك لـ "صحوات" فكرية وثقافية تحولت الى ثورات فيما بعد، كما حصل في العراق والبحرين والسعودية، فايقظت مشاعر العزّ الكرامة لدى عامة المسلمين بإمكانية عودة الهوية الدينية والحضارية لهم في ظل هيمنة سياسية قاهرة خلقت امراً واقعاً على المسلمين. وهو نفسه الذي لاحظناه اليوم. يضحل ويتلاشى على الارض كما يذوب الملح في الماء.

النبوءة الثورية والريادة في الصحوة الاسلامية، يمكن ان نلاحظها متجسدة في تركيز الشهيد الشيرازي على البؤر المنسية في العالم الاسلامي، ومحاولته ضخ الثقة بالنفس فيها والامل بالحياة الافضل. وهي حقاً لمفارقة عجيبة، أن يتحمل شخصية معارضة خرج من السجن، وتعرض لصنوف التعذيب، ثم يشدّ الرحال الى بلاد الشام والبلاد الافريقية والخليجية لينشر من هناك قضيته الحضارية والتأكيد للمسلمين عامة والشيعة خاصة، أنهم قادرون بالقوة والفعل، على صنع التغيير والتغلب على كل التحديات والعقبات التي كان يخلقها الحكام ومؤسساتهم الثقافية والاعلامية والمخابراتية.

فكان تحركه الشهير والرائد على الطائفة العلوية في سوريا وبعث روح النهضة الشيعية في صفوفهم وتذكيرهم بخلفيتهم التاريخية والحضارية، وانهم - بالحقيقة- شيعة اثنا عشرية، يعودون بالانتماء الى اهل البيت، عليهم السلام. وقد تحقق الانجاز الباهر والتاريخي بصدور اعلان رسمي من الطائفة العلوية في سوريا يؤكد انتمائهم وهويتهم الشيعية.

وفي كل جولة كان يقوم بها على البلاد الاسلامية، كان يثير القضايا المعاصرة ويسعى لإيجاد الحلول لازمات فكرية وثقافية تواجه الامة بشكل عام. ففي رحلته الى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج، كان الشهيد يقوم بمهمتين اساس الى جانب المهام الموكلة اليه في بعثة شقيقه الامام الراحل السيد محمد الشيرازي؛ الاولى: تتعلق بإثارة قضية مراقد أئمة البقيع، واقناع المسؤولين السعوديين بإعادة بنائها، وقد وصل الى مراحل متقدمة في المفاوضات وغير مسبوقة، لإقناع المسؤولين في الدولة، وايضاً رجال الدين، بيد ان جهات عدّة كانت تقف بالمرصاد من هذه المهمة وافشلت كل هذه المساعي التي كادت ان تثمر عن بناء وتشييد مقبرة البقيع. أما المهمة الثانية: فهي دعوة المسؤولين ورجال الدين في السعودية الى التخفيف من حدّة الخطاب الطائفي والكف عن تكفير المسلمين بسبب زيارة مرقد النبي والاولياء الصالحين. تشير المصادر الى ان حوارات الشهيد مع كبار المسؤولين ورجال الدين السعوديين، تبعث على الارتياح والقبول من هؤلاء رغم تعصبهم الطائفي ونفسهم الجاهلي المعروف.

وقام الشهيد بزيارة الى مصر بعد فترة وجيزة من اصدار شيخ الازهر فتواه الشهيرة بجواز التعبّد بالمذهب الشيعي. وكانت للشهيد زيارة الى جامع الازهر واللقاء بالشيخ محمود شلتوت، ومن الشهادات التاريخية على الرؤية الشمولية والعميقة للشهيد لقضايا الامة والحضارة الاسلامية، إصراره على شيخ الازهر بعقد مباحثات ومشاورات خلال مؤتمرات تعقد بين علماء المسلمين لبلورة رؤية اسلامية موحدة لعموم القضايا التي تهم الامة، بيد ان شيخ الازهر اعتذر عن المواصلة في هذه المباحثات، وشكر الوفد الذي ارسله الشهيد الى مصر، رغم الاصرار الشديد، لكن كان الاعتذار صدر من شيخ الازهر لأسباب بقيت غير معروفة!

ومن المحطات الاخرى للشهيد؛ البحرين، فقد تلقى دعوة من أهالي هذا البلد لزيارته عام 1972، واول موقف لافت في هذ الزيارة، كان الاستقبال الكبير والمثير لأهالي البحرين، حتى تصور بعض المسؤولين آنذاك، بحصول تظاهرة جماهيرية في مطار المنامة، لان المستقبلين كانوا يرددون بصوت واحد: "اللهم صل على محمد وآل محمد". لدى وصول الشهيد الى ارض المطار.

والى جانب المحاضرات والاجتماعات التي عقدها في غير حسينية ومسجد بالبحرين بحضور جمع غفير من الجماهير الى جانبهم وزراء واعضاء في "المجلس التأسيسي" الحديث النشوء، وحديثه الاذاعي، كانت للشهيد بصمات واضحة على نشوء هذا البلد، حيث كان يقضي ايامه الاولى في الاستقلال عن الهيمنة البريطانية، ويعلن لنفسه خوض "تجربة ديمقراطية"، وقد دعى خلال محاضرات عدّة ان يكون الاسم الجديد لدولة البحرين "دولة البحرين، عربية اسلامية"، وهو ما نال اعجاب وقبول المسؤولين آنذاك، فجاءت استضافته لمقر البرلمان، وجلوسه في مكان الضيوف والدبلوماسيين، وبعد انتهاء جلسة البرلمان تقدم الشهيد بأداء السلام والتحية الى رئيس الوزراء ورئيس المجلس التأسيسي واربعة من الوزراء وعدداً آخر من النواب.

الحوزة العلمية الزينبية.. ملاذ الشيعة الدائم

هذا العنوان - بالحقيقة- يفترض لمقال خاص او ربما دراسة موسعة، لا أن يكون ضمن طيات هذا المقال القصير، لما يضمه من تفاصيل و ذكريات ، تعكس حجم القضية الكبرى التي ناضل من اجلها الشهيد الشيرازي، ألا وهي نشر ثقافة وفكر اهل البيت، عليهم السلام، الى العالم، وليس فقط الى الشيعة وحسب.

صحيح أن فكرة تأسيس هذه الحوزة انطلقت من الأب الملهم والمرجع الراحل الميرزا السيد مهدي الشيرازي لدى مروره بأرض الشام في طريقه الى الحج مع ابنائه وفريق البعثة، وذلك في نهاية الخمسينات، انطلاقاً من فكرة وجود حوزة علمية الى جوار مراقد أئمة اهل البيت، عليهم السلام. بيد أن تحمّل نجله الشهيد هذه المسؤولية، جعله في مقدمة مشروع حضاري عظيم ما تزال ثماره العلمية والثقافية ونتائجه الاجتماعية والسياسية ماثلة للعيان حتى اليوم.

من أهم وابرز ما يجب ذكره عن هذا المشروع، التحديات العنيدة في طريقه والتي لم يتوقف عندها الشهيد مطلقاً، فكانت تأتي من جهات وشخصيات واطراف عديدة، من بينها محسوبين على الحركة الاسلامية، حيث لم يستسيغوا وجود حوزة علمية في الى جوار مرقد السيد زينب، عليها السلام، يوم كانت المنطقة المحيطة بالمرقد عبارة عن واحات ترابية شاسعة، ومما ينقل عن بعضهم قوله للسيد الشهيد: "أليس من الافضل لك ان تسعى ببناء حمام بدلاً من حوزة علمية مع وجود حوزات علمية عديدة لدينا...."!!

وجود هذه الحوزة لم يأت من فراغ، إذ كانت السلطات البعثية تشد الخناق على طلبة العلوم الدينية من غير العراقيين لاسيما من الاخوة الافغان، فكانت الاوامر بتسفير اعداد كبيرة منهم خارج العراق، وقد وصل عدد كبير منهم الى سوريا عندما وجدوا ملاذهم ومنيتهم عند مرقد السيدة، عليها السلام، وعند المشروع الريادي الكبير للسيد الشهيد.

ان الحديث طويل جداً عن مسيرة تأسيس وتشييد والمحافظة على هذه الحوزة العلمية، بل ذو شجون – حقاً- لانه اخترق ممرات مستحيلة تدخلت فيها اطراف حزبية ومخابراتية وتقاطعت مع مصالح فئوية وشخصية. وفي خضم كل ذلك واصل الشهيد طريقه وفعل المستحيل للإبقاء على هذه الحوزة ودعمها وتقويتها والحصول على كل ما يلزم من تراخيص إقامة الطلبة الافغان وتراخيص البناء، فضلاً عن تحمل التكاليف الباهظة لتغطية نفقات بناء الحوزة والمرافق التابعة لها من اماكن سكن ومكتبة وغيرها. بيد ان الذي يجب ان يقال للتاريخ والاجيال، أن وجود الشيعة من كل انحاء العالم، معززين مكرمين في الجمهورية العربية السورية، يعود بالفضل الى تلك المساعي والجهود المضنية التي بذلها الشهيد الشيرازي، وما تحمله من تهجمات وضغوطات نفسية وتهديدات. واكثر من هذا؛ تحول سوريا الى محطة آمنة لجميع الثوار والمناضلين في العراق وايران والسعودية والبحرين وافغانستان، ينطلقوا من خلالها في نشاطاتهم المختلفة لتحقيق اهدافهم في التغيير واقامة البديل الافضل.

اضف تعليق