q

ما تعرض له العراق من تحولات كبيرة في المجالات الحياتية المختلفة، لابد أن يشمل العادات والتقاليد والقيم والنواميس التي تحكم المجتمع، ومن أخطر التغييرات التي طرأت على الأوضاع الاجتماعية في العراق، تسلل ثقافات كثيرة لا يعرفها العراقيون في السابق عن قرب بسبب عزلهم عن العالم قيل 2003، فكما هو معروف أن سيل المعلومات ووسائل الاتصالات المختلفة كالموبايل والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وسواها، حصل عليها العراقيون بعد هذا التاريخ، وانفتحت أبواب الإعلام لهم بأوسع ما يمكن، فتدفقت قيم دخيلة من كل الأنواع والأشكال والمضامين، كانت في السباق محجوبة عن العراقيين بصورة شبه تامة.

وهكذا تعرض العراقيون الى ما يشبه الصدمة المباغتة، وعانوا من هذه الفوضى منذ ما يقرب من عقد ونصف، صحيح أنهم تذوقوا طعم الحرية في الرأي والإطلاع على العالم، بيد أن أسلوب الانفتاح لم يكن متدرجا، كما تم ذلك مع الشعوب الأخرى، لذا وصف المراقبون هذه التحولات بأنها تغييرات طارئة من العيار الثقيل، وهي تمثل نقلة من الظلام الى ما هو أفضل منه لولا هذه العشوائية التي رافقت التغييرات، وكان من المؤمّل أن يبدأ الشعب العراقي حياة السعادة والرفاه والحرية في مختلف الميادين، بعد قُبِرت عهود التسلط والدكتاتورية، بيد أن حالة الانفلات وعدم استخدام الوسائل الإلكترونية بمعرفة دقيقة واقتناص الجانب الإيجابي منها يمثل تحديا كبيرا بالنسبة للشعب والدولة العراقية التي لا تزال تكافح من اجل بناء مؤسساتها بعيدا عن الفساد.

إن هذا الانفتاح المفاجئ على العالم شكلّ اختبارا هائلا للقيم والأعراف العراقية ووضع المجتمع كله في حالة مواجهة شاملة مع الواقع (الإلكتروني التواصلي الإعلامي الجديد)، ويبدو أن الهزة العميقة التي تعرض لها المجتمع العراقي، والتي أفضت الى انهيار شبه تام، على المستويات السياسية والاقتصادية وسواها، قاد الى نوع من التحول، في منظومة القيم التي حكمت سلوك العراقيين لفترة طويلة، فالعراقيون كما يعرف أهله والمنتمون له، كانوا متمسكين بالقيم التي تحافظ على الروابط الاجتماعية، وتزيد من لحمة الشعب، لاسيما الفقراء منهم، ومن تعرضوا للاضطهاد، أكثر من غيرهم، كانوا رحماء بينهم، يساعدون بعضهم البعض الآخر، ويواسون من يتعرض منهم الى مصاب، او ضرر ما، سواء كان مصدره السلطان واذنابه او غيرهم، من هنا ليس ممكنا التنكر لهذه الأعراف والعادات الاجتماعية النبيلة، ولا يمكن أن يضعها العراقيون خلف ظهورهم، بعد أن دخلوا عصر الإنترنيت وصاروا ينتمون الى العالم بعد العزلة.

صدمة التغييرات المباغتة

وقد وعى العراقيون هذا الواقع جيدا، وهم لا يريدون أن يفرطوا بالقيم التي نشأوا وترعرعوا فيها، وكذلك هم شعب ذكي متفاعل لا يريد أن يفرط بالفرصة الذهبية التي تجعلهم جزء مهم من العالم وليس جزءا معزولا عنه وهكذا تجد أن ثمة تقاربا، بين هذه الشرائح المنتهكة، في حقوقها السياسية، والمدنية وسواها، وهذا ما دفع بالمجتمع، الى التمسك بالقيم الاصيلة الجيدة، التي تساعد على حفظ العلاقات الاجتماعية، والاقتصادية وغيرها، بما يخفف من ثقل الفقر ووطأته، على ضعفاء الحال، فكان الموظف البسيط، أو المدير العام، أو المسؤول على هذه الدائرة او تلك، يرفض أن يضغط على المواطن ولا يلجأ الى ابتزازه مطلقا، بل كان الموظفون يؤدون خدماتهم، بطريقة محصنة بالشرف، والقيم التي يؤمنون بها، لدرجة أن الموظف كان يرفض أن يستقبل أية هدية، من المواطن، ويعتبر هذا السلوك، مساسا بشرفه واخلاقه وشخصيته، وطالما أن الدوائر الرسمية أصبحت على مساس مباشر بحياة الناس، وصار الموظف يتحكم بنوعية حياة الفرد والجماعة، وغالبا ما تكون الخدمات التي تقدمها هذه الدوائر، تتعلق بمصدر الرزق اليومي للفرد، ومع التحولات التي رافقت تغيير مابعد نيسان 2003، فقد نمت بعض القيم التي غيّرت التعامل المتبادل بين الموظف والمواطن، وانتشرت ظاهرة الرشى، كما تنامت ظاهرة الاختلاس والتجاوز على المال العام، وحالات التزوير والاحتيال وغسيل الاموال والمضاربات والمتاجرة بما يسيء للطبقات المتدنية، ومع أنها سبقت هذا التأريخ المذكور بكثير، لكنها لم تكن بهذا الحجم الواسع، ولا بهذا التغيير الملحوظ في منظومة القيم، التي دخلت فيها مضامين، أخلاقية وسلوكية غريبة، على المجتمع العراقي، لقد بات واضحا أن التغييرات التي طرأت في حياة العراقيين جعلتهم أمام تحديات جديدة تستدعي منهم أن يكونوا أكثر حيطة وحذرا في التعامل مع الواقع الجديد بما يحمله من مستجدات في القيم أو طبيعة العيش.

بالطبع رافقت هذه الموجة من التغييرات قيم دخيلة أساءت للعراقيين وشوهت الواقع، ومن هذه القيم ما كان مرفوضا بالنسبة للعراقيين، خصوصا ما يتعلق بالفساد بأنواعه كافة، أو الرشوة والاختلاس والتجاوز على المال العام، هذه كلها قيم مرفوضة لدى العراقيين، لكن المستفيدين ماديا أو سياسيا حاولوا أن يصنعوا مكانا لهذه القيم السيئة ويجعلونها مقبولة ومستساغة من لدن الشعب.

الفساد إرهاب من نوع آخر

وانتشرت بالفعل ظواهر الرشا والاختلاس وأنواع أخرى من الفساد الذي يسعى حتى هذه اللحظة لتحقيق مآرب ومغانم فردية أو عائلية أو حزبية فيما سيكون المقابل تقويض الدولة العراقية وتجربتها الجديدة، لذلك فإن تنامي مثل هذه الظواهر السلبية، يعد تغييرا خطيرا، في منظومة قيم المجتمع عموما، وعلى الافراد والنخب، ورؤساء العشائر، ورجال الدين، وكل من يهمه الامر ملاحظة هذا التغيير الفادح، في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، وخطورة التساهل مع السلوكيات المنحرفة، واعتبارها نوعا من القيم المقبولة أو المفيدة في حين أنها مسيئة في كل شيء ولا يمكن تبرير العمل بها في أي حال.

فكما هو معروف أن المختلس، والمرتشي، والمضارب، والمتاجر بالمخدرات وسواها، يعد من المنحرفين، ومن الادوات التي تعمل على هدم بناء المجتمع، ولهذا تعتبر مثل هذه الاعمال إرهابا من نوع آخر، كما عبر عن ذلك كثير من الكتاب والمصلحين والمعنيين بهذا الامر، وهو ما يتطلب مواجهة هذه الانتكاسات القيمية المتواصلة، لذا يمكن للجهات المعنية الحكومية أو الساندة لها أن تتخذ عددا من الإجراءات التي يمكن أن تساعد في عدم التفريط بالقيم الإنسانية النبيلة للعراقيين، ومنها على سبيل التجريب:

- إعلان حملات ثقافية إعلامية توضيحية لمآرب الثقافات والقيم الدخيلة وفضح أساليبها وغاياتها.

- التشجيع المدروس حول أهمية الاحتفاظ بالقيم العراقية الأصيلة وعدم التفريط بها في أي حال من الأحوال ومهما كانت التبريريات والحجج المطروحة.

- سن القوانين الفورية والشديدة، التي تحد من تنامي هذه الظواهر الخطيرة، ومعاملة المرتشي كالارهابي، وتشديد العقوبة القضائية عليه، بما يوازي جريمة الارهاب، ويشمل هذا التشريع مختلس المال العام والمضارب به.

- ردع التجار والمتجارين بالمواد التي تسيء لصحة الشعب، بقوانين فورية ذات قوة اجرائية شديدة ومباشرة.

- ردع جميع حالات الاحتيال والنصب والتزوير بقوانين مشددة وفورية.

- لابد للبرلمان العراقي كجهة تشريعية أن يقوم بدوره الهام في هذا الصدد، وأن يتم ردع المفسدين، والمتجاوزين على المال العام، والمرتشين، بعقوبات فورية مضاعفة ومشددة.

- وبالتزامن مع الجهدين التشريعي، والقضائي، لابد أن تنطلق حملات توعية للشعب، على ضرورة الحفاظ على القيم الاصيلة، وتنميتها، ومحاربة الانحراف بكل انواعه، وهو دور مشترك ينبغي أن تتولاه النخب الاجتماعية والدينية والثقافية والاعلامية وغيرها.

- وأخيرا ينبغي الموازنة بين الاستفادة من وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي من جهة، وبين أهمية المحافظة على القيم الأصيلة وعدم التفريط بها.

اضف تعليق