اشتهرت في مدينة العاب بغداد في الرصافة قبل تحولها الى قاعدة عسكرية للقوات الامريكية بعد العام 2003 والى ثكنات عسكرية للقوات العراقية بعد انسحاب الاولى، تلك المرايا المتعددة والتي كان يقف امامها الزائر لتلك المدينة يضحك على (صورته – نفسه) المنعكسة من المرآة، وهي فعلا بتموجاتها تلك تبعث على السخرية، لكنها سخرية مريحة ومحببة.
اكتشفت وجود نفس المرايا في حديقة الزوراء في زيارة لها مع احد ابنائي، وعدت الى تلك اللحظات حين كنت بعمره..
هذه المرة لم اكن ساخرا من نفسي وحدها، بل سخرت من صورة ابني، وهو (آخر) بالنسبة لي، مثلما هو فعل نفس الشيء مع صورته وصورتي..
هل كان ثمة اخر في المرآة حقيقة، ام ان ماتوهمته اخر هو امتداد لي؟ ولا اقصد صورة ابني المنعكسة من المرآة، بل اقصد آخرا (آخر) يختلف عني في كل شيء وبه اكتشف نفسي واعرفها.. لان (كل ما هو مختلف عن الاصل هو آخر)..
ساترك هذه الفكرة واعود لها لاحقا، بعد ان نعرف ما الذي يعنيه الاخر – المختلف، تبعا لتلك القاعدة السابقة الذكر (كل ما هو مختلف عن الاصل هو آخر).
ينتمي مفهوم الانا والاخر الى فضاءات الفكر الاوربي، ظهر حين كان (العقل الاوربي) يرى العالم من خلال شبكة واسعة تهيمن عليها علاقة اساسية هي علاقة "الأنا" و"الآخر"، لا علاقة "آخر" "بآخر". والتي ستتمخض عن مفاهيم جديدة برزت عبر الاستشراق او المركزية الاوربية او الاستعمار ونظرية الاعراق الصافية وغير ذلك.
يقال الاخر في مقابل (الذات) أو (الأنا). أما هذه (الذات) فلا معنى لها سوى أنها المقابل، لـ"الآخر" تقابُلَ تعارض وتضاد، أو أنها المطابق لنفسه وهو ما نترجمه اليوم بلفظ "الهوية" أو "العينية"، أي كون الشيء هو هو: عين نفسه. وإذن فالغيرية في الفكر الأوربي مقولة أساسية مثلها مثل مقولة الهوية.
يذهب محمد عابد الجابري في احد بحوثه والذي حمل عنوان: ("الأنا" مبدأ للسيطرة... و"الآخر" موضوع له)، الى ان مفهوم "الغيرية" ينطوي في الفكر الأوربي على السلب والنفي. بعبارة أخرى: يمكن القول إن ما يؤسس مفهوم الغيرية في الفكر الأوربي ليس مطلق الاختلاف، بل الغيرية في الفكر الأوربي مقولة تؤسسها فكرة (السلب) أو النفي.، فـ (الأنا) لا يفهم إلا بوصفه سلبا، أو نفيا، لـ (الآخر).
تأكيدا لهذه النتيجة يقول الفيلسوف اللاهوتي العالم الفرنسي، بليز باسكال: (للأنا خاصيتان، فمن جهة هو في ذاته غير عادل من حيث إنه يجعل من نفسه مركزا لكل شيء، وهو من جهة أخرى مضايق للآخرين من حيث إنه يريد استعبادهم؛ ذلك لأن كل (أنا) هو عدو، ويريد أن يكون المسيطر على الكل).
من هنا يتضح أن مفهوم (الأنا) مبني على السيطرة، سيطرة الذات على ما تتخذه موضوعا لها، سواء كان هذا الموضوع أشياء الطبيعة أو أناسا آخرين. وفي هذا المعنى كتب ماكس هوركهيمر يقول: "من الصعب جدا أن يحدد المرء بدقة ما أرادت اللغات الأوربية في وقت من الأوقات أن تقوله وتعنيه من خلال لفظ (الأنا)، إن هذا اللفظ يسبح في تداعيات غامضة قاحلة. فمن حيث أنه مبدأ "الأنا" (الـ ego) الذي يحاول جاهدا كسب المعركة ضد الطبيعة على العموم وضد الآخرين من الناس على الخصوص، كما ضد الدوافع السلوكية التي تحركه، يبدو مرتبطا بوظائف السيطرة والحكم والتنظيم"، ويضيف قائلا: "ولم يتحرر مفهوم الأنا في أي وقت من حمولاته وشوائبه الأصلية الراجعة إلى نظام السيطرة الاجتماعية".
من خلال هذا التصور لـ (الأنا) كمبدأ للسيطرة يتحدد موقع (الآخر) ودلالته ووظيفته في الفكر الأوربي، أي بوصفه موضوعا للسيطرة أو عدوا، أو بوصفه قنطرة تتعرف الذات من خلاله على نفسها.
في حقل علم الاجتماع استخدم هذا المفهوم لفهم المنهجية التي تستثني المجتمعات بعض فئاتها على أنها من (الآخرين) الذين يتصفون بصفات دونية لا تمكنهم من الاختلاط معهم. وعلى سبيل المثال، ورد في كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" تفسيرات تبين كيف مارست المجتمعات الغربية خصوصا إنجلترا وفرنسا هذا المفهوم بهدف السيطرة على "الآخرين" في الشرق.
كما أن مفهوم "الآخر" عنصر أساسي في فهم وتشكيل الهوية، حيث يقوم الناس بتشكيل أدوارهم وقيمهم ومنهج حياتهم قياسا ومقارنة بالآخرين كجزء من منهجية التفاعل البيني التي لا تحمل بالضرورة معان سلبية.
في اوساطنا الثقافية او الاجتماعية، وفي خطاباتنا السياسية او الدينية، ليس ثمة اخر رغم كل الادعاءات التي نسوقها لتبرير وجوده واستدعائه الى اوساطنا، بل ثمة مشابه لنا (قسرا وجبرا) يكون صدى لاصواتنا، ويكون صورتنا المنطبعة في المرآة..
تلك المرآة التي ذكرتها في بداية هذه السطور، انها تقوم بتشويه صورتنا اي (الانا) الذي امامها، وتجعل منه مصدر سخرية حتى لهذه (الانا) لأنها انعكاس مشوه، ومسخ، ليست له ملامح محددة، الا باقتران الحركات الصادرة من الاصل مع مثيلتها في الصورة المقابلة.
لايتحقق الاخر في مثل هذه الفضاءات المتشابهة، والتي هي استنساخ تقوم بتوليده هذه الذات التي تريد استعباد الاخرين.
كيف يمكن الخروج من هذا المأزق في النظر الى الاخر؟
حسب الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي إن الذات تقوم بوظائف سمعية وبصرية وحسية، وبما أنها كذلك فإنها تتواصل مع الآخرين، ذلك أن الإنسان إذا كان قد اخترع الآلة واستعملها فإنه باستعماله للغة يتمكن من معرفة الغير، لأن اللغة تقوم بدور أساسي في هذا الباب لأنها خروج من الذات وتوجه نحو الغير، وداخل تجربة الحوار من خلال اللغة تتكون عبر الأنا والغير أرضية مشتركة. إن الوجود مع الآخرين والتواصل معهم يجعل العلاقة بين الأنا والغير علاقة أغنى وأكثر تعقيدا.
اما عالمة اللسانيات، و الفيلسوفة النسوية الفرنسية جوليا كريستيفا فتنتقد المفهوم السائد للغريب بوصفه الدخيل المسؤول عن شرور الجماعة كاسم مستعار للحقد وللأخر وبالتالي اعتباره عدو يتطفل على هوية الجماعة ويهدد سلامتها مما يتعين القضاء عليه وإقصائه وتهميشه ومحاصرته. لتبين أن الغريب هو الذي يسكننا على نحو غريب فهو القوة الخفية لهويتنا وهو تعبير عن خلافاتنا الداخلية فهو ليس دخيلا عن الجماعة ما دمنا نكتشفه في داخلنا ونكتشف أننا كلنا غرباء ومتمردين على الروابط الاجتماعية والوعي.
ادراك الغريب بهذا الشكل يوفر علينا أن نبغضه في ذاته (أن نبغض ذاتنا) مما يعني قبول الاختلافات (مادمنا نختلف حتى مع أنفسنا ولا نرضى بذاتنا في كثير من الأحيان) وبالتالي التسامح مع الغير لأنه جزء من الذات الإنسانية. فالغير أنا آخر مختلف عني وشبيهي يوجد داخلي كما يوجد خارجي. وهذا يفترض إدماج الغريب الخارجي في الجماعة ومحاورته والتسامح معه لأنه إذا كان هناك من يهدد وحدة الجماعة فهو الغريب الداخلي وليس الخارجي.
بعد هذا أتساءل: أي آخر يمكن ان نختار؟
اضف تعليق