لم يدرْ في خلد أحد من سكان الأرض، أن العالم سوف يكون مفتوحا أمامه بكل خصوصيات الأمم والشعوب، وأن الثقافات (الفكر، السلوك، أنماط العيش، الملبس، المأكل، الشكل الخارجي...إلخ)، كل هذه وسواها سوف تكون تحت تصرف الإنسان (إلكترونيا) عبر شبكات التواصل والمواقع الافتراضية التي اجتاحت سكان المعمورة وجعلتهم مكشوفين لبعضهم على مدار الساعة، فلم تعد الكتب أو الكلمة المنطوقة الإذاعة، التلفاز، السينما، هي الوسائل الوحيدة لترويج الثقافات، فقد ولى ذلك الزمن المحدود في عرض الثقافة والفكر والشكل والسلوك، وصار شبكات التواصل قادرة على عرض العالم أمام نفسه بلا توقّف.
بالطبع من السذاجة أن ننظر الى هذه التطورات الكبرى، والفريدة من نوعها في مجال الاتصال الإلكتروني على أنها جاءت في سياقها العلمي الطبيعي، فنحن نعتقد ان هناك من يقف وراء هذا الانجاز الهائل، وهناك تخطيط وعقول بالغة الذكاء، وأموال طائلة تم استثمارها في مجال تطوير الفضاءات الافتراضية، وجعل العالم عاريا من أسراره مفتقدا للأسوار الشاهقة الفاصلة بين البلدان والشعوب، والهدف هو جعل صراع الثقافات يدور في ساحة مكشوفة، وأمر طبيعي أن تنهزم الثقافات الضعيفة أما الثقافات الراسخة وهذا هو المطلوب بالضبط.
فالثقافة الغربية على وجه التحديد أقوى من الثقافات الأخرى ليس في الجوهر أو القيم، لكنها الأفضل في الترويج وطرق العرض والتجديد واعتماد الابتكار والصدمة والإبهار، فيما الثقافات الأخرى ومنها ثقافتنا، على الرغم من تمتعها برصيد كبير من القيم والاعتبارات الانسانية، إلا أنها تفتقر الى طرائق العرض وفنون الترويج، ولا يمكن لها أن تبزّ الثقافة الغربية في هذا المجال، ولهذا لاحظنا كيف بدأت الخيوط الخفية في وسائل التواصل الحديثة تتحكم في العقول بصورة جماعية، ولا تزال تسعى للتحكم في المسارات الفكرية والسلوكية للأمم والشعوب المتأخرة، لاسيما شريحة الشباب التي تأثرت (كما هو واضح) بالثقافات الغربية، فانتشرت قيم دخيلة وعادات مختلّة، وتفاقم عنصر التسطيح، وتراجعت القيم الجوهرية.
أسباب شيوع العادات الوافدة
كل هذا يحدث وفق أسلوب التحكم الخفي عن بعد، مثل مسرح الدمى حيث تتحكم أصابع خفية بالخيوط التي تحرك الكائنات فوق خشبة مسرح الحياة، وعلى الرغم من أن الأمر يبدو طبيعيا ولا يثير الانتباه أو الغرابة، إلا أن السيطرة السريعة على عقول الشباب وجعلهم مبهورين بالثقافة الغربية، بات أمرا واضحا لا يمكن إنكاره، وهذا ما يستدعي حالة من الإستنفار للشروع في سبل وطرائق المعالجة والتصدي لانتشار القيم الدخيلة والعادات الرديئة وانحدار العقلية الشبابية نحو التسطيح وإهمال العمق.
هناك حالة من الشعور بالنقص والدونية تجاه الثقافة الغربية، وهو خلل متوارَث كان ينبغي تحاشيه منذ وقت طويل، بيد أن الأمر لم يعد تحت السيطرة، فاليوم كما نلاحظ في وسائل التواصل، هنالك هجمات ثقافية فكرية منظمة تستهدف العقول الشبابية في مجتمعاتنا، ونحن كما هو واضح لم نعد العدة لمثل هذه المواجهة وهذا الغزو، صحيح هناك من يتحرك ويسعى للتنبيه على هذه الظاهرة ويفضح أهدافها، ومنهم على سبيل المثال بعض العلماء والخطباء والمفكرين، إلا أن هذا الجهد ليس كافيا، والدليل ما يحدث اليوم في الفضاء الافتراضي.
كذلك أدّى إهمال الشباب حكوميا وأهليا، وحرمانهم من فرص الحياة المناسبة، الى سهولة الاختراق من الثقافة الغربية ذات الأساليب البراقة، فالشاب عندما لا يجد من يهتم به ويوفر له فرصة عمل مناسبة وحياة مرفّهة، فإنه يشعر بالغبن، وأمر طبيعي أنه ينبهر بالآخر وكيفية أنماط العيش، ويتأثر بالشكل الخارجي للشاب الغربي، على الرغم من أن الجوهر هو الأهم، حتى بات شبابنا ينشغل بالملبس أكثر من سواه، ويعتمد المظهر الصاخب الغريب عن عادات المجتمع، حيث التأثير الثقافي للآخر بات في واضحا الى أبعد الحدود.
لذا نحن نعتقد أن الجميع شارك في صنع هذه المعضلة، الحكومة والمجتمع المدني، وشاركت الأسرة في تفاقم هذه الظاهرة، فالأب والأم لم يعد لهما دور مؤثر في مراقبة الأبناء وتوجيه سلوكهم وتنمية أفكارهم، الأب مشغول بهمومه الشخصية، دائخ من المشاكل التي تحيط به، فلا يعبأ بأولاده الشباب الذين باتوا تحت رحمة الموجات الفكرية المغرضة، هذا الخلل بات واضحا، ومع التنبيهات إلا أن الأسرة وأولياء الأمور لم يقوموا بدورهم كما ينبغي.
معالجات ورؤى مقترحة
أو نقطة في مجال التصدي لهذه المشكلة، أن يتم تأسيس خلية يتم اختيارها نخبويا، حيث يشترك فيها خيرة العقول والخبرات القادرة على التعامل مع الوضع الجديد، والعارفة في شؤون الشباب ونواقصهم مع الفهم العالي لطبيعة العالم الافتراضي، وموجات التعامل اللفظي والأخلاقي بين مجاميع الشباب في عالم التواصل في المواقع والشبكات الاجتماعية، يتم أولا اختيار هذه الخلية بصورة دقيقة لتبدأ بوضع أسس متطورة للتعامل مع هذه الظاهرة، على أن لا يكون المنع من ضمنها، فمنع وسائل التواصل من العمل لا يمكن أن تكون الحل المناسب.
المنع يعني عزل المجتمع عن العالم، وهو أمر تكون أضراره أكثر من فوائده، بالتالي لابد من البحث عن حلول أخرى، فالبقاء ضمن الإطار العالمي المفتوح أفضل من الانغلاق حتما، لكن ينبغي أن تكون هناك خطوات احترازية يتم نشرها بين العقول الشبابية عبر دورات منتظمة وحملات إعلامية واسعة، ومشاركة الجامعات والمدارس في هذا الجهد التربوي الكبير، وتوعية الأسرة على أهمية دورها التربوي، فالجميع هنا تقع عليهم مسؤولية توعية الشباب وحمايتهم من الثقافات الغربية أو سواها، وهذا لا يعني منع الشباب من الاطلاع على الأفكار والثقافات الأخرى وإنما التعامل معها وفق قاعدة الند الذي يثق بنفسه وثقافته، لاسيما إنها ذات جذور تمتد عميقا في التاريخ الثقافي للبشرية جمعاء.
نعم لتطوير العقول الشبابية، وتنمية قدراتها، وتدريبها على المواجهة وتنمية القيم والعادات السلوكي ذات المنحى الإنساني، والابتعاد عن البهرجة والانبهار بالشكل قبل الجوهر، والنظر الى الثقافة الوافدة على أنها ليست أفضل ولا نشعر بالدونية إزاءها، أي التعامل معها وفق قاعدة الند بالند، ليس تكبرا، ولا تعاليا ولا انغلاقا، وإنما كي نضع حدا لمآرب الآخر الذي يسعى دائما كي يتحكم بعقول شبابنا عن بعد، فإذا صار شبابنا واعيا بهذا الأمر صاروا أكثر قدرة على المواجهة واستثمار وسائل التواصل بصورة متوازنة تثبت أننا نمتلك العقول والإرادات التي لا تقل عن العقل الغربي وإرادته.
اضف تعليق