لا غرابة في الطرح الذي يدعو الى تهيئة العقل منذ نعومة الأظفار كي يكون أكثر قدرة على الابتكار، فالحقيقة التي تم إثباتها، أن العقول المدرّبة بصورة جيدة على التعامل مع الإبداع والتقصي وإماطة اللثام عن المخبوء من العلوم الإنسانية وسوها، باتت تخضع لسلسلة من التدريبات والمران النادر والمدروس بما يتواءم مع قوة الهدف المرسوم له، فحتى تصل الى حالة نادرة من الاختراع والمغايرة عليك أن تبني عقلا ذا أسس علمية تحليلية لا تخضع للرتابة أو القنوط، وهذه الميزة لا يمكن تحصيلها بعيدا عن المران المحسوب.
فالعقل بحسب العلماء من ذوي التخصص مصطلح يستعمل عادة لوصف القدرة على التمييز والإدراك واتخاذ القرار بالاستفادة من بيانات الدماغ البشري وخاصة تلك الوظائف التي يكون فيها الإنسان واعيا بشكل شخصي مثل التفكير، الجدل، الذاكرة، الذكاء، التحليل وحتى الانفعال العاطفي يعدها البعض ضمن وظائف العقل، أما النظريات التي تبحث في العقل، ما هو وكيف يعمل، تعود تاريخيا إلى عهد أفلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة الإغريق.
كذلك وجدت جذور النظريات ما قبل العلمية في اللاهوت والفكر الديني عموما وركزت على العلاقة بين العقل، والروح أو الجوهر الإلهي المفترض للذات الإنسانية، أما النظريات العلمية الحديثة فهي تعتبر العقل ظاهرة تتعلق بعلم النفس وغالبا ما يستخدم هذا المصطلح بترادف مع مصطلح الوعي، لذلك أي ظاهرة أو مؤشر يدل على التطور والتقدم فإنه يُنسَب الى العقل.
العقل زينة الرجال
ومما هو سائد ومتعارف شعبيا عن العقل ذلك القول المعروف الذي يردده الناس في مجالسهم وأحاديثهم وهو يحمل رأيا يثمن دور العقل في الحياة، فيُقال أن العقل زينة الرجال، ولكن في واقع الحال أن العقل ليس زينة للرجال فحسب، وإنما وسيلة بنّاءة وأساسية لبناء المجتمع الأفضل، لهذا أكد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، على القدرات الهائلة التي ينطوي عليها العقل، والتي بمقدورها نقل الإنسان من واقع الجهل والتخلف والعجز، الى آفاق حياتية عملية فكرية واسعة ومتنورة، تتيح له المشاركة في بناء المجتمع الحيوي القادر على مواكبة عالم اليوم الضاج بالتطورات والابتكارات والاكتشافات الجديدة المذهلة على مدار الساعة، وهكذا يبقى العقل مصدر السبق الأول للتغيير بلا منازع.
ومثلما تشترك عدة عناصر في إنتاج مادة معينة، فإن العقل يحتاج أيضا الى عناصر داعمة له، تقف معه وتدعمه لتحقيق أفضل النتائج المساعدة في الإنتاج الفكري او المادي، وكثيرة تلك العناصر والقيم الداعمة للعقل، والتي تعضّد دوره المهم والأساسي في البناء المجتمعي، من هذه العناصر التدبير والتقوى والخلق والأدب وما شابه من قيم تدعم العقل وتصمم التخطيط السليم لتطوير المجتمع من خلال تطوير العقل باعتباره مصدر أول بل أساس لمطاولة الابتكار والتجديد في البناء المادي والمعنوي.
وبات من الممكن تربية العقل على أن يكون متميزا خلّاقا ولا شك أنه يمثل الامتياز التكويني الأهم بالنسبة للإنسان وتفوقه على للمخلوقات كافة، كونه ساعد الإنسان على أن يتدبّر أحواله بصورة منسقة متطورة قائمة على قاعد أساسية معروفة وهي التفوق الدائم على الكائنات الأخرى التي لا تمتلك هذا التميز، وقد أدرك الإنسان منذ وقت مبكر عبر العلماء والمفكرين والفلاسفة والمصلحين، أن الاستخدام الأرقى للعقل هو السبيل الأوحد لبناء المجتمع الأفضل، ولا سبيل للإنسان سوى العقل إذا أراد أن يبني مجتمعا مدنيا فاعلا، يقترب من مدنية المجتمعات المتطورة التي تمكنت من خلال تدعيم العقل من الوصول الى أعلى المراتب في التحضّر، فضلا عن جعل حياة أفرادها أكثر رفاهية وأكثر مغايرة ورفاهية، فإضافة الى ضمان حياة عامرة مكتملة للبشر، فإن الكائنات الأخرى وجدت تطبيقا دقيقا لشعار الرفق بالحيوان كنتيجة لفاعلية العقل البشري الذي ضمن شروط حياتية قائمة على الابتكار والتطور المستدام.
بالعقول تنال ذروة العلوم
وفي الحقيقة لم يكن العقل غائباً عن ساحة الأفكار، فمساهماته كثيرة واستدلالاته واسعة وهو فعّال في المجالات والفعاليات كافة، فهو يلعب الدور الأول في إدارة الأفكار وأنواع الابتكار التي أسهمت في نقل وقائع الحال وتفاصيله الدقيقة نحو الأفضل بصورة تصاعدية، لذلك عد العقل أهم رصيد داعم للإنسان وقد دفعه الى الأمام نحو سلم الارتقاء في الفكر والسلوك لكي تتطور الرؤى والأفكار والمبتكرات العقلية ذات النزعة الجماعية، ثم تم الشروع بتحويل الأطر العملية المبتكرة، الى واقع يحسّن رؤية البشر وينمّي قدرتهم على التفكير البناء، ويشجعهم على نحو دائم بمعاقرة الابتكار والبحث عنه من خلال الاستدلال والاستنباط واعتماد الخطوات العلمية كافة.
لذلك دائما ما كان العلماء ووجهاء المجتمع يمنحون العقل موقعا أعلى وأفضلية تقوم على التقييم الواقعي لأهمية العقل ودوره في نبش التجديد في أطر الحياة السائدة وتحريكها بفاعلية، ذلك أن العلماء المهتمين ينظرون الى بعض القيم التي يدعمها العقل بمثابة الركائز المهمة التي يؤكد عليها المصلحون دائما، ومنها على سبيل التذكير ميزة أو ملَكَة التقوى وقدرتها على دعم العقل كي يؤدي دوره التجديدي التطويري بطريقة عادلة، فالعقل ينبغي أن يعتمد في بحثه عن التجديد والمغايرة على القيم البناءة، إذ ما فائدة خرائط التجديد التي لا تقوم على القيم الرصينة التي تحمي الأمة والمجتمع من الانهيار، أو من أخطار الوافد من الثقافات والأفكار.
وخلاصة قولنا في هذا المضمار، أن الهدف ليس الابتكار بحد ذاته، ولا تطوير العقل من دون ربط هذا التطوير بالنتائج المرتقبة، فالمطلوب عقل فاعل يقوم على القيم البنّاءة كالتقوى والعدل والرحمة والمساواة في الفرص والموارد كمثال، لذلك يرد في أقوال الإمام علي عليه السلام في مزايا العقل: (بالعقل يستخرج نور الحكمة/ بالعقل صلاح كل أمر/ بالعقل صلاح البرية/ بالعقول تنال ذروة العلوم/ على قدر العقل يكون الدين/ غاية الفضائل العقل/ ثمرة العقل الاستقامة/ حسن العقل جمال البواطن والظواهر/ ظن العاقل أصح من يقين الجاهل/ أفضل العقل الأدب/ أفضل النعم العقل/ أفضل العقل الرشاد/ أسعد الناس العاقل/ العقل أقوى أساس، العقل شرف كريم لا يبلى/ العقل أصل العلم وداعية الفهم/ العقل صديق محمود/ أعقل الناس من أطاع العقلاء/ أعقل الناس أشدهم مداراة للناس/. وهكذا نلاحظ الترابط المتين بين قدرة العقل وبين القيم الخلاقة، أما السبب فهو واضح كل الوضوح، ذلك أن العقل بلا قيم لا يمكن أن يكون قادرا على تصميم حياة قائمة على المغايرة والتجديد الملتصق بالقيم الصحيحة.
اضف تعليق