قيل قديما، إذا اختلفت الآراء صحَّتْ، ويمكن أن نضيف إلى هذا النص المأثور، أهمية مضاعفة الآراء وتفاعلها، مع تحاشي حالات التصادم في اللفظ أو المعنى، أما الاختلاف في الرؤية فيمثل ركيزة مهمة تجعل من مضامين الآراء مؤثرة ومفيدة وذات جدوى، وقد دأبت حكومات ذكية وأمم وشعوب متطورة على الاستفادة القصوى من الآراء في هذا الشأن أو ذاك، وابتكرت طريقة منتقاة لتشابك هذه الآراء وتلاقيها وتفاعلها عبر أسلوب المؤتمرات، كما قامت بذلك مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام بالتعاون مع جامعة كربلاء عبر مركز الفرات للدراسات والبحوث التابع للمؤسسة.
فقد أثبتت هذه الفعالية أن رعاية مثل هذه المؤتمرات يمكن أن تطور أسلوبا جديدا لتوظيف الأفكار والخبرات المتنوعة التي تنتهي بالنتيجة الى أصحاب القرار، فتكون رصيدا خبيرا في مجال صنع القرار السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي وسواه، ولذلك ركّزت الدول المتطورة على هذا الأسلوب لتطوير قدراتها في المجالات كافة.
وحين التطرق الى المعنى اللفظي لمفردة المؤتمر، فإنها تعني جمع الوجوه والعقول العلمية القادرة على ابتكار الآراء المتميزة وتوظيفها في خدمة بناء الدولة، حيث يستفيد الرؤساء من تلك الآراء المتخصصة الناتجة عن خبرة توضع تحت تصرف صانع القرار لمناقشته والخروج بأفضل السبل والبدائل والحلول، ويحق بطبيعة الحال لعامة الناس أن يأتمروا لهدف ثقافي او خدمي او فكري او توجيهي، وبالنتيجة تكون للمؤتمرات فوائد كبيرة تعود بالفائدة على الكل من دون استثناء، ولهذا باتت الدول تتسابق لنشر هذا النوع من الأسلوب في التخطيط والإدارة والبحث والمناقشات المسبقة للمشاريع أو الخطوات العملية المهمة في هذا المجال أو ذاك.
رقد يكون هذا هو السبب الذي يقف وراء دعوة الكثير من المفكرين والعلماء ومنهم الإمام الشيرازي (رحمه الله) الذي كان يحث الجميع على الاجتماع ومناقشة أمور الأمة المختلفة، فالنقاش الفكري المركّز والآراء التي يتم طرحها في هذا المؤتمر او ذاك، لابد بالنتيجة أن تنتهي الى خطوات متقدمة في الاتجاه الصحيح، وكما تشير الشواهد فإن جميع الدول التي تتبوأ صدارة العالم اليوم، شاعت فيها ثقافة المؤتمرات فنقلتها من وضاعة البؤس الى سمو الرفاهية.
ينصح علماؤنا بثقافة تعدد الآراء
قد يسعى بعضهم، جماعات أو أفراد، الى تشويه التجمعات الفكرية، أو السياسية وغيرها، يحدث ذلك عندما تكون الأهداف المعلنة ذات أجندة مغرضة تتوزع على السياسية والاقتصاد أو الصفقات المالية، هنا يلعب الإعلام دورها حاسما في هذا الشأن، فهناك من يسيء لمفهوم المؤتمر ونتائجه بسبب ارتباط بعض التجمعات بدوائر دولية تحيط بها الشكوك والشبهات، وبهذا لا تصب مثل هذه المؤتمرات في صالحة الدولة أو وحدة المجتمع، ولكن على العموم من المستحسن أن ترسخ ثقافة تشابك الآراء ومناقشتها في مؤتمرات دورية.
ولهذا ينصح علماؤنا الراسخون باعتماد هذه الثقافة في استقبال العقول المتميزة ومناقشة مبتكراتها عبر ثقافة او منهج المؤتمرات التي ينبغي أن تكون سائدة بين أوساط النخب وغيرهم، كونها تشكل سبيلا لجمع شمل المعنيين من قادة او غيرهم، وذلك لمناقشة الشؤون السياسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية والدينية وكل ما يتعلق بحياة المجتمع، والإشكالات التي تعيق العمل اليومي في هذا المجال او ذاك، وكلما تنوعت المؤتمرات التي تجمع أطياف المجتمع، كانت النتائج الجيدة تصب في صالح المجتمع، لأن عدم إقامة المؤتمرات لها مدلولات ونتائج كثيرة، أولها حدوث جفوة كبيرة ودائمة بين مكونات المجتمع وشخصياته، ومن ثم ضعف او غياب روح التعاون وتبادل الآراء بشأن طرح الحلول للمشكلات التي يتعرض لها المجتمع، لاسيما أننا نغرق في أتون مرحلة معقدة وحاسمة محليّا وإقليميا ودوليا.
بالطبع هناك من لا يرغب بنشر ثقافة المؤتمرات ويتذمر من عقدها وإقامتها، ويعدها مضيعة للوقت وهدرا للمال العام لاسيما إذا كان تمويلها من الأموال العامة، فهناك من يرى بأنها تكلف خزينة الشعب أموالا طائلة من دون جدوى، وهناك من يرى عدم أهميتها بتاتا، وإنها سرعان ما تتحول الى حبر على ورق وكلام ينساه الجميع حال مغادرتهم المؤتمر، إن هذه الملاحظات قد يصح منها الكثير، وقد تكون هناك مؤتمرات شكلية لا فائدة منها، وربما تكلف أموالا طائلة من دون نتيجة تذكر، لذا فإن أي مؤتمرات من هذا النوع، ستكون غير محبذة ولا مقبولة بطبيعة الحال، ولكن الحل لا يكمن في عدم إقامة المؤتمرات، فهذا خطأ جسيم، بل على العكس ينبغي التشجيع على عقد المؤتمرات الكثيرة المتخصصة والعامة بعد التخطيط لها بصورة جيدة ومتخصصة، مع التأكيد على أهمية القرارات والنتائج والحلول، ومدى القدرة على تطبيقها من خلال واقعيتها وانسجامها مع القدرات المتاحة للمعنيين بالتنفيذ، على أن يتم التأكيد دائما على التواصل مع صانع القرار، وأن تنتهي نتائج المؤتمرات العلمية المتخصصة بأيدي القادة كي تساعدهم في تثبيت رؤية منتقاة تسهم في تعضيد البناء السليم.
الاستفادة من التجارب الدولية
وربما لسنا بحاجة الى التذكير بأن ثمة تجارب دولية كبرى أثبتت بصورة قاطعة أهمية عقد المؤتمرات وجودة الثمار التي تم قطفها من هذا المنهج الرصين الواعي، وكلنا نتذكر من خلال السمع والقراءة، تلك المؤتمرات الكبرى المثمرة التي كان يعقدها غاندي مع مؤيديه من المجاميع الكبيرة والصغيرة من الشعب الهندي وهو يضخ الوعي ونور المبادئ الخلاقة، والثقافة والتحضّر في عقول مئات الملايين من الهنود المتعصبين والمتنورين على حدا سواء، وقد أثمرت تلك المؤتمرات عن نتائج مهمة بل مصيرية للشعب الهندي ونقلته من أجواء الاحتقان والتطرف والاقتتال والبغضاء الى أجواء التعاون والتعايش والتسامح والإنتاج الأفضل، لدرجة أن غاندي نفسه أطلق تسمية اسم المؤتمر على حزبه السياسي الذي ظل يقود الهند الى الأمام عقودا طويلة حتى في عهد ابنة غاندي الشهيرة انديرا غاندي، والى الآن لا يزال حزب المؤتمر مؤثرا في الساحة السياسة الهندية، وما هذه النقلة الاقتصادية الهائلة في الهند إلا حصيلة مؤكدة لتلك الجهود العظيمة التي قام بها مفكرو وأحرار الهند.
ومن الأفضل أن نستفيد من تجارب عالمية كهذه، وعلينا أن نفهم أولا بأن مؤتمرات غاندي او غيره من قادة التصحيح والتنوير في العالم، لم تكن شكلية ولا تنطوي على أهداف وقتية زائلة، ولا يتم عقدها أو نشرها لصالح أشخاص او لحصد منافع فردية او فئوية ضيقة الآفاق، بل هناك خط استراتيجي واضح المعالم يهدف إليه المؤتمر والقائمون عليه ويمضون في ضوئه الى النتائج الصحيحة، وهي في الغالب في حال توافر الحرص تصب في صالح بناء الدولة.
لهذا ينبغي أن يضع المعنيون عند إقامة المؤتمرات، شرطين مهمين في بالهم وهم يعقدون المؤتمر في هذا المجال او ذاك:
الشرط الأول: أن لا يكون المؤتمر تقليديا روتينيا لا يعتمد التخطيط في المعالجة والمخرجات والنتائج.
الشرط الثاني: أن لا يجهد كاهل ميزانية الدولة من حيث تكاليف الإقامة والضيافة وما شابه، وأن يتم تقليص الأموال المصروفة الى أدنى حد ممكن، مع التأكيد على تحقيق النتائج الناجحة للمؤتمر.
وهذا يستدعي تشجيع إقامة التجمعات والمؤتمرات المدنية الأهلية، وبهذا يستطيع المعنيون والجهات التي تقع عليها مسؤولية إقامة المؤتمرات، أن يحققوا النتائج الجيدة التي تتمخض عن تقريب وجهات النظر وتبادل الآراء والحلول، وصولا الى الهدف الأهم وهو خدمة المجتمع والعمل الدائم على تطوره وازدهاره في جميع ميادين الحياة، من خلال الانتهاء الى غاية واضحة المعالم مجملها الصالح العام.
اضف تعليق