إن الترابط بين العقل والجسد، مثل الترابط بين الحكومة والشعب من حيث الأداء السليم، فالعقل لا يمكن أن يؤدي دوره كما ينبغي إلا إذا كان جسمه سليما، والحكومة لا يمكن أن تؤدي أعمالها بصورة سليمة ما لم يكن شعبها مثقفا منضبطا، ولعل هذه المقاربة بين الحالتين أو الصورتين تؤكد نوعا من الترابط بين الشعب الواعي المثقف وبين قيام الحكومة المتميزة بأدائها المتطور.
وهكذا يمكن أن نستنتج بسهولة أن العقول السليمة هي حجر الزاوية في بناء الدولة المتقدمة، نظرا لأنها تستوجب وتتوطن في أجسام حيوية فاعلة، وبالتالي سنكون أمام شعب حيث، فكما هو معروف من المقومات الأساسية لبناء الدولة الحديثة، أن تكون هناك منظومة صحية فاعلة، تقدم خدماتها المتكاملة للمجتمع في ظل الدولة الحديثة، التي تعد من سماتها المهمة، قدرتها على توفير الرعاية الصحية الجيدة لشعبها، والسبب أن طبيعة الخدمات الصحية ترتبط بالوضع العام للدولة ودرجة انتمائها لروح العصر.
لذلك فإن الدول الديمقراطية التي تديرها أنظمة سياسية متطورة، تحرص كثيرا على النجاح في مضمار الصحة، بل تحاول الحكومات في هذه الدول أن تتفوق على غيرها كثيرا في مجال الصحة، وبعض الحركات والاحزاب السياسية تقدم الصحة في برنامجها الانتخابي على المجالات الاخرى أملا بكسب أصوات الناخبين، إنطلاقا من كون سلامة الجسد وصحته تشكل ضمانا لسلامة العقل ومن ثمة سلامة التفكير والأداء معا.
على العكس من ذلك وكما يحدث في الدول الفردية أو الدكتاتورية أو تلك التي تدّعي التحرر والديمقراطية ولا تعمل بها، فإنها لن تنجح في بناء منظومة صحية متكاملة، والسبب لايحتاج الى تحليل عميق، فترابط منظومات الحركة والفعل والتفكير تجعل فشل الدولة في السياسة ينعكس على فشلها في الصحة والاقتصاد والتعليم وغيرها، لذلك تجد نكوصا وتراجعا كبير في منظومة الصحة لدى الدول القمعية، أو الدول التي تتمسك بأذيال الديمقراطية وتدخل الى أعماقها وتحولها كمنهج حياة شامل يتدخل في بناء المنظومات السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية وسواها من المجالات الاخرى.
سلامة البنية الصحية
يخبرنا التاريخ القريب أن العراق كان بلدا محكوما بالقمع على مدى الحكومات الملكية والجمهورية التي تتالت في حكمه، هذا النهج القمعي تمثل بالسياسة العرجاء التي كانت تدير شؤون البلاد كافة، لذا فإن ضعف المنظومة الصحية يمثل حاصلا للتردي في النهج السياسي بسبب الرداءة التي وسمت العقول، فكما بدأنا هذه الكلمة الجسد العليل لا يمكن أن يضم عقلا صحيحا، ومع أن بعض النظم الحديدية قد تنجح ببناء منظومة خدمات صحية متطورة، إلا أن النهج السياسي المتوتر لابد أن ينعكس على عمل هذه المنظومة بصورة سلبية، خصوصا أن الناس لا يتمتعون بعقول واعية حيوية.
من المؤسف أن قادة البلاد لا ينظرون الى البنية الصحية بمنظار علمي معاصر، فالمسؤولون لا يقدرون أهمية سلامة المنظومة الصحية في عراق الحاضر، وانعكاسها على المجالات الأخرى، ففي العراق حاليا هناك تجربة سياسية لا يزال كثير من المعنيين يطلقون عليها مصطلح الديمقراطية الوليدة او الجديدة، على الرغم من عمرها الذين قارب عقدا ونصف، في هذه السنوات طويلة نسبيا لم تعر الحكومة ما ينبغي من اهتمام للصحة، وربما لم تربط بين سلامة العقول والأجساد،، ولو أن الحكومة الديمقراطية وعت أهمية الصحة وفعّلت هويتها وانتسابها الى الانظمة المتطورة، لكانت قد بذلت جهدا تنظيميا واضحا في بناء المؤسسة الصحية في العراق، لكن هذا الامر لم يحدث حتى هذه اللحظة، لدرجة أننا نفتقد لبرنامج ضمان صحي واضح المعالم يمكن أن يحمي المواطن العراقي من حالة الضعف التي تواجهه في المجال الصحي، وينمكن أن يُعزى هذا التلكؤ في بناء الدولة المدنية الى جانب من الإهمال الرسمي للمنظومة الصحية بقطاعها المتنوع الحيوي.
كذلك لم يخطر في بال الأحزاب والشخصيات والكتل السياسية أن تتقدم ببرنامج صحي واضح المعالم، يضمن حدا أدنى من سلامة الجسد، وربما لم يخطر في بال أعضاء الطبقة السياسية أن هنالك ترابطا بين العقل المتميز، والجسد الصحيح، لذلك حتى الآن فيما لو تعرّض العراقي من ذوي الدخول المتدنية الى مرض مفاجئ يتطلب جراحة أو ما شابه ذلك، فإنه سيعاني الأمرّين ولربما يفقد صحته ويصبح عليلا الى وقت طويل إذا لم يفقد حياته كليا، وبدلا من أن يصبح كائنا حيويا بنّاءا، يتحول الى عبء على الدولة والمجتمع، علما أن الدولة بإهمالها هي التي تسببت بهذه النتيجة المجحفة، هذا الخلل التنظيمي الصحي الخطير لا ينبغي أن يبقى قائما على هذه الشاكلة، ولا يجب أن يشكل حضورا واضحا في الدولة العراقية التي يراد لها أن تكون ذات منهج مدني ذي ركائز تقوم على الفكر السليم والسلوك المدني.
أمثلة أمام الجهات الرسمية
إن إهمال الصحة على نطاق واسع، جعل العقول في حالة من الجمود، ولأن عالمنا اليوم يركز على رأس المال البشري، فالصحيح أن تركز الحكومة على هذا النوع من رأس المال، لكنها لم تقم بذلك وفقا للشواهد، فقد حدثني أحد المرضى قبل أيام عن اضطراره للذهاب الى قسم الطوارئ في المستشفى الحكومي بسبب تعرضه لألم داء الشقيقة، وحين وصل الطوارئ كتب له الطبيب المقيم دواءا عبارة عن حقنة تخفف من ألم الصداع، وفوجئ هذا الشخص بخلو قسم الطورئ من محلول الحقنة وأداة الحقن أيضا السرنجة مما اضطره لشرائها من (صيدلية أهلية وليست حكومية) من جيبه الخاص، ومع أن المبلغ بخس وضئيل لكن ردهة طوارئ المستشفى الحكومي لم تستطع توفيره للمريض، فكيف إذا تحدثنا عن العمليات الجراحية الكبرى، ولهذا فإن الخلل في المنظومة الصحية ينعكس بقوة على سلامة الجسد وحتما في المحصلة ينعكس على العقل وسلامته.
مثل هذه الأمثلة التي يمكن أن نستل مثلها مئات الأمثلة من الواقع، يتم على نحو مستمر وضعه أمام عيون وزارة الصحة والجهات المعنية، ليؤكد لنا ولمن يهمه الأمر بأن دولة العراق الجديد تعاني من عدم قدرتها على بناء وتفعيل منظومة صحية تليق بالانسان العراقي جسدا وعقلا، وهو أمر يشي بانعكاس الضعف السياسي على الصحة ومن ثم على مجالات الحياة الأخرى، والأسباب واضحة ومعروفة لكن الأهم فيها هو عدم قدرة الطبقة السياسية على الربط بين سلامة العقل والجسد وما ينتج عن ذلك من تراجعات كبيرة على مستوى التفكير والأداء.
في الخلاصة نقف اليوم في مفترق طرق، فأما أن نستشعر الخطر الذي يحيق بنا، ونترك اللامبالاة جنبا، ونقلص من حالات الاندفاع نحو المصالح الخاصة وجمع الأموال بأية طريقة، مع اشتعال الصراع على المناصب والسلطة فيما بين الأحزاب، وأما أن يكون طريق الخراب ماثلا أمام الجميع، فالخراب الصحي وتدمير الأجساد يعني تدمير عقول الناس، وهذا يؤدي حتما الى تدمير أي أمل في بناء عراق يضاهي بمدنيته الدول التي يتساوق فيها نمو العقل وسلامة الجسد.
اضف تعليق