مفردة (هدر) توحي بالإتلاف أو التضييع أو الفقدان المتعمَّد، وقد جاء في قاموس لسان العرب أن مفردة هدر تعني (ما يبطل من دم أو غيره، أي ما يُستباح، ويمكن سفحه في حالة من زوال حرمته التي تحصنه ضد التعدي عليه)، ولكن يمكن أن يتمدد معنى هذه الكلمة ليشمل هدر الإنسان وطاقاته وتحييد ممكناته كافة، لتحقيق أهداف محددة، أهمها سلب قدرته على التأثير والإنتاج، ومن ثم سلبه الاستقلالية، والقدرة على تحقيق الذات ومواصلة حياته بصورة مستقلة.
أي أن الهدف الأول لهدر الإنسان هو السعي لجعله تحت قبضة الطغيان، أو القوة التي تسعى للتحكم بالإنسان كي يمكن الاستفادة من طاقاته، ليس لصالحه، وإنما لصالح السلطة التي تسعى لهدر قيمته بشتى الأساليب وأكثرها خبثا وأنانية، كما يحدث في عالم اليوم من استهتار مثير للغثيان بكرامة الإنسان وقيمته، عبر استخدام العولمة لتحقيق هذا الهدف الذي يبتغي أولا ,اخير جعل غالبية سكان الأرض تحت هيمنة الأقلية المالكة للثروات والموارد والأموال، وبالتالي هي المالكة للقوة والنفوذ والسلطة بكل أشكالها ومسمياتها، العسكرية والعولمية والمالية والسياسية والاقتصادية وهلمّ جرى.....
إن حصر ثروات وموارد البشرية بأيدي أقلية، لا يمكن أن يتحقق من دون التخطيط المبرمج لهذا الهدف الذي يسيء لقيمة الإنسان، ولعل من أحدث وأخطر هذه الأساليب هي تلك التي سعت الى بثها وترويحها وسائل العولمة المختلفة، فحينما يتم ملء فراغ الشباب بوسائل التسلية المختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي او شبكة الإنترنيت أو سواها من المواقع والأجهزة الإلكترونية، إنما يهدف هذا المسعى الى شل قدرات الشباب، وتحييد قدراتهم وتجميد طاقاتهم، إلا تلك التي تصب في صالح الأقلية التي تستميت من أجل السيطرة على موارد العالم.
يقول مصطفى حجازي مؤلف كتاب الإنسان المهدور عن العولمة بأنها: (تتولى عملية هدر الوعي من خلال ترويج ثقافة التسلية التي ملأت الثقافة المرئية وقنواتها الكونية، وملأت على الناس المهمشين والمهدورين مجالهم الحيوي بالمباريات الرياضية والفيديو كليب).
سلب كرامة الإنسان وتحطيمه
ويضيف في قول آخر يصب في الاتجاه نفسه: (ينتج الهدر المتمثل في العصبيات والاستبداد والعولمة من خلال التفاقم المتصاعد ضمن خط الفقر، فيسيطر أقل من 20% من سكان الأرض على ما يزيد عن 80% من ثروتها ومواردها. وبسبب الإجراءات المشددة الهادفة إلى بناء سد في وجه المهدورين تزدهر مافيات تهريب البشر).
ولا يتوقف الأمر على تجميع الثروات واستقطابها بوسائل وأساليب لا إنسانية، وإنما يتعدى الأمر الى سلب كرامة الإنسان وتحطيمه، من خلال بث الكراهية بين الناس، وإشعال الفتن فيما بين مكونات المجتمع الواحد، أو فيما بين المجتمعات، والتشجيع على التطرف، والتعصب، ومن ثم التناحر فيما بين الناس أنفسهم، ما يجعلهم لقمة سائغة لمن يستهدفهم من أصحاب السلطة الغاشمة، أو سواها من المستفيدين من هدر طاقات الإنسان وكرامته.
وحتما أننا لا نخطئ عندما نقول بأن أسوأ وأخطر أنواع الهدر يتمثل في تعطيل قدرات الإنسان، بأساليب المشاغلة عبر التناحر والاحتراب والتطرف، وهو ما يحدث اليوم في عدد من المجتمعات العربية والإسلامية وسواها، فما يحدث في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، وأفغانستان وسواها، يجري بتخطيط مسبق، وليس أمرا اعتباطيا، وبهذا يكون الفرد في حالة شلل شبه تام على مستوى التفكير والعمل أيضا، ويحدث ذلك التناقض بين السعي لتحقيق الذات، وبين الفشل في الذريع بسبب تعطيل طاقات الانسان عبر الوسائل التي سبق ذكرها.
في هذا السياق ورد في قول للمؤلف نفسه، بأن: (كل إنسان منذ بداية حياته يرغب في أن يحقق ذاته وأن يكون له دور، أي أن كيانه مشروط باعتراف الآخر به، فهدر الرغبة إعاقة، ومنعها يؤدي إلى إعاقة نزوات الحياة، وبذلك تتعطل المكانة والاعتراف بالقيمة على المستوى الذاتي).
ولكن تُظهر الوقائع في معظم مجتمعاتنا القائمة على التسلط وتحييد الطاقات، وتجميد المواهب والعقول المتميزة، وتضييع كل فرص الابتكار والتميز، بأن جميع الرغبات التي تهدف الى تحقيق الذات لا تجد سبيلا مناسبا لتحقيقها، خصوصا بالنسبة للشباب، هذه الشريحة التي وجدت نفسها وسط حالة إهمال غريب من لدن الحكومات والمنظمات والمؤسسات الأهلية التي لا يمكنها استيعاب طاقات الشباب إلا بنحو جزئي.
المبادرات الفردية والإقليمية
والآن ونحن نؤشر هذه الحالة الخطيرة، والتي باتت ظاهرة وحاضرة بوضوح في إطار الأمر الواقع، تُرى ما الذي يتوجَّب علينا فعله، وما هي الإجراءات التي ينبغي اتخاذها في المسارين الرسمي والمدني أو الأهلي، في الواقع العالم كله يعيش المأزق ذاته، فالمشكلة ليست فردية، ولا حتى إقليمية، إنها مشكلة عالمية، يتعامل معها المستفيدون بعقلية أقلية مسيطرة على أغلبية سكان العالم، وهي متمرسة في تجفيف قدرات الأكثرية، وباتت العولمة أكثر الأسلحة فتكا بالناس، ولها القدرة على التأثير السلبي في أكثرية سكان العالم لصالح الأقلية.
ولكن سبل المعالجة ينبغي أن تتخذ طابع المبادرات الفردية والإقليمية والجماعية، فمثلما يتحد أصحاب الشر لكي يتعاونوا على هدر الإنسان، ينبغي أن يتعاون المتضررون على إيجاد السبل المضادة، ومثلما يفكر المستفيدون من الهدر بأساليب قادرة على تحقيق مآربهم، ينبغي أن يفكر العالم المتضرر بأساليب مضادة تحد من تأثيرات الهدر الإنساني.
بطبيعة الحال يحتاج الأمر الى تعاون دولي مدني وحكومي على حد سواء، وقد لا نخطئ عندما نقول بأن أكثرية البشر تخوض حربا شرسة ضد الأقلية منها والمتحكمة بها، لذلك نلاحظ أن الأنظمة السياسية ذات السمات القمعية الاستبدادية، غالبا ما تجدها تتحرك بأذرع أصحاب المال (الأقلية التي تسيطر على ثروات وكنوز وموارد المعمورة كلها)، وغالبا ما تكون هذه الأنظمة الطاغية، مأمورة من أسيادها مقابل حماية عرشها من السقوط.
ولعل الشعوب الفقيرة، والدول المتخلفة والضعيفة، عاشت هذه التجربة المؤلمة، حينما خضعت لأنظمة قمعية متنمرة على شعوبها، وضعيفة مطيعة لأسيادها، وإذا كان هو الأسلوب القديم، أو المنظور ضمن التاريخ الإنساني، فإن هدر الإنسان لم يتوقف حتى اللحظة، وأن أساليب الأقلية المتحكمة تتجدد مع المراحل التاريخية المتغيرة للبشرية، فبات العولمة من أهم وسائلها لتحقيق مآربها في إدامة سيطرتها على العالم.
وهذا ما ينبغي أن يتنبّه له المفكرون والنخب ذات الطابع الإنسان، لكي يتحد الجميع، تخطيطا وفكرا وأساليب وأدوات، من أجل وضع حد لهدر قيمة الإنسان وطاقاته، وإشاعة روح العدالة، والقضاء على الاستبداد والطغيان، الذي يعد من أهم وسائل هدر الإنسان، وهو أسلوب الأقلية المتحكمة في إدامة السيطرة، ما يتطلب فهم هذا الأمر بصورة دقيقة ومواجهته بعلمية وتنظيم تام، مع أهمية الإيمان بأن طريق المواجهة طويل وشاق وينطوي على تضحيات هائلة، لكن ليس هنالك من سبيل للإنسانية جمعاء من سبيل المواجهة المستدامة ضد الهدر وأربابه.
اضف تعليق