الحياد مصطلح سياسي، انبثقت في ضوئه منظمة (عدم الانحياز)، إبان الصراع المحتدم بين الدولتين العظميين (أمريكا/ الإتحاد السوفيتي قبل تفككه)، أما علاقة هذا المصطلح بالثقافة والمثقف، فإنه يشير إلى الموقف الحيادي للثقافة، وهو في الحقيقة يختلف كليّا عن المصطلح السياسي الذي يهدف الى عدم زج الدول بنفسها في صراع عالمي لا يخدم سوى دولتين عظميين في ذلك الحين، أما بالنسبة للثقافة، فلا يليق بها الحياد كونها مطالَبة دائما بموقف واضح مضاد للظلم والقمع والتجهيل.
وهذه العناوين والمفردات هي أسماء لأدوات يلجأ إليها النظام السياسي القمعي لترويض شعبه عبر أساليب الترهيب والترغيب، لذلك فإن المثقف مطالَب بدور واضح للحد من الظلم السياسي أو سواه، بمعنى أنه يدخل في حالة حرب مع النظام، وهذا يستدعي شخصية تُبنى بقوة ومبدئية وفقا لجهود المثقف نفسه بعد دخوله معترك الوعي، مضافا الى ذلك الظروف المحيطة كالعائلة، والمدرسة، والشارع، ودائرة العمل، وعامل الوراثة وما يضفيه على هذه الشخصية باتجاهين متعاكسين، الجيد والرديء، وهذا النوع من المثقفين يكون له دور متميز في توعية المحيط القريب منه كالعائلة ومحيط العمل وما شابه.
وكما نلاحظ أن مهمة المثقف غير الحيادي صعبة، تتطلب منه سعي مستمر لتنوير الآخر، لذلك فإن المثقف المنتِج لا يعرف السكون، أو الحياد ريثما يظهر له ما يقدمه الآخر لكي يستفزه ويدفعه للمشاركة او المبادرة في هذا المجال الثقافي او ذاك، أي أنه يتمتع بصفة الاقدام والسبق، لهذا نلاحظ حضورا مميزا لمثل هؤلاء المثقفين، في المحافل المتعددة، بالإضافة الى حضوره الإعلامي المتواصل، حيث يصبح نقطة اجتذاب لوسائل الاعلام بمختلف انواعها المعروفة، والسبب أنه يتمتع بعنصر التجديد ومفاجأة الآخرين بطروحاته، لذلك غالبا ما يُحاط مثل هؤلاء المثقفين، بهالة من الضوء والاهتمام، سواء من الوسط الذي ينتمون له، او من عموم المهتمين والمتابعين، والسبب دائما عنصر عدم الركون الى الحياد.
وثمة مشكلة تتشكل نتيجة لزيادة عدد المثقفين الحياديين، فهؤلاء سوف ينتجون ثقافة حيادية، أو بالأصح خاملة، وقد تكون تابعة، أو مسيّسة لصالح حزب أو حكومة فاشلة، وهذا النوع لا يعبأ بمصالح الشعب أو الدولة، بل هدفه المنفعة المادية، على النقيض من ذلك، هناك مثقفون متفاعلون، لا ينتظرون الآخر يتحرك ويبدع ويبادر لكي يستفزهم، ويزجهم في المضمار الثقافي الحي، بل يتحرك هؤلاء وينشطون، بعيدا عن الخمول الذي قد يحيلهم الى مثقفين حياديين خاملين.
ثقافة بلا موقف
علما أن المثقف غير الحيادي هو نتاج ذاتي بالدرجة الأولى لذلك يبقى غياب المبادرة لدى المثقف، عيبا شخصيا فرديا بالدرجة الاولى، فحين يحضر الكسل ويشكل جانبا أساسيا من شخصية المثقف، عنذاك يضمر الابداع، وتغيب رغبة الابتكار، وتضمحل ملكة التجديد، ويسقط المثقف في فخ العجز، والخمول، والانتظار الدائم، لما يصل إليه من جرعات التحفيز والتحريك الخارجية، فيما تموت او تتباطئ فيه، رغبة الطرح والمبادرة لأسباب عدة، على المثقف نفسه أن يتجنبها، ذلك أن دور المثقف والثقافة يبقى المتصدر في قضية التوعية.
ولكن علينا أن نعترف بأن المثقفين غير الحياديين يمثلون النسبة القليلة دائما، أكثر من سواها في المجتمعات الراكدة، لذا قلما يحصل المجتمع الساكن او الخامل، على مثقف منتج متفاعل، فينتشر في مثل هذه المجتمعات، مثقفون فارغون، مستعرضون ليست لديهم مواقف واضحة، متقلبون ومغرمون بالصيد في المياه العكرة لا يعنيهم بالمطلق سوى منافع ذاتية جلها يتجسد بالمال أو الوعود التي يحصلون عليها مقابل قيامهم للترويج الثقافي الذي لا يهتم بالمجتمع أو بناء الدولة بقدر اهتمامه بما يحقق له مصلحة ضيقة آنية في الغالب.
هل يمكن أن ينطبق هذا الرأي على واقعنا الثقافي، وما مدى تطبيقه الفعلي على حياتنا وأنشطتنا المختلفة، تُرى أين نحن من هذا الكلام، أو الآراء التي تم طرحها وهل نعاني فعلا من غياب المثقف المنتج المتفاعل البعيد عن الحيادية؟ إن الإجابة تستدعي الصدق اولا، واتفاقا على مبدأ إصلاح الذات ثانيا، وتستدعي ايضا فهما للدور الكبير الذي يقع على عاتق الثقافة والمثقفين، في نقل المجتمع الى مراتب أعلى، في الوعي والحياة، وهذا بدوره يتطلب مغادرة ثقافة اللاموقف.
وإذا قررنا معالجة الوضع المتردي الذي نمر به بخصوص الوعي والدور الضعيف للثقافة في واقعنا السياسي والاجتماعي، لابد أن نتفق أولا على أننا مجتمع متخلف عن الركب العالمي، ونفتقد الى المعاصرة، تكبلنا تقاليد وسلوكيات، وربما أفكار ديدنها السكون والمحافظة على ما هو كائن حتى لو كان واقعنا مريضا يقع تحت عادات بالية، مجتمع يقبع مثقفوه في خانة الحياد والتردد والكسل، وفي حالة الحركة ثمة لهاث نحو المكاسب والمصالح الفردية إلا ما ندر، فالكل يريد أن يصبح في الواجهة، وإذا لم يتصدر الصفوف، يقنط ويغتاظ، وربما يلجأ الى الاقتصاص بالعداوة المعلنة او الخفية، لكننا في الحقيقة نحتاج إلى ثقافة نكران الذات، ومثقفين لديهم القدرة على التضحية، فهذا النوع من المثقفين هو القادر على انتشال المجتمع من الظلم السياسي والتأخر في الوعي والثقافة؟.
محاولات لمسخ الشخصية العراقية
إننا ينبغي أن نفهم الظروف التي مر بها العراقيون، ومن بينهم شريحة المثقفين، فهناك مسارات حياة جهنمية، مسخت الشخصية العراقية وانتزعت منها فرص التميز من لدن طغاة ضخّموا ذواتهم، الى الدرجة التي مسخت شخصية الشعوب، وزرعت الشعور بالدونية لدى الجميع، فاليوم يريد الناس أن يشعروا بأنهم مهمون، لذلك يتصدرون المجالس الخاصة والعامة، وقاعات الاحتفالات والمناسبات والمهرجانات، كل ذلك وغيره الكثير من السلوكيات، تأتي من اجل استرداد الشخصية المستلبة، لذا على الثقافة أن تعيد الثقة الى الجميع، وعلى الساسة وصناع القرار أن يعيدو الاعتبار للشعب.
وحتما أن الثقافة تعرضت لمثل هذا الحرمان والتشويه، فيما المثقفون يعانون الأمر نفسه بطبيعة الحال، لكن ما لا يجوز ولا يُبرر للمثقف، هو أن يلهث مثل غيره الى معالجة انكسار وانمساخ الذات بالسبل والطرق التي لا تبني الذات ولا تحفظها، لذا نحن ندعو الى بناء الذات الثقافية البعيدة عن الحيادية، والتي تتمتع بروح الإيثار والمبادرة في آن، فلا حيادية مقرونة بالخمول والانعزال الكلي، ولا حركة ونشاط مقرون بتحقيق المنفعة الفردية، بل نشاط وحركة وفكر منتج يسعى لتطوير النسيج المجتمعي كي يجعله أكثر تماسكا واعتدلا واستقرارا.
لذا نعتقد أن من أهم الإشكاليات التي تعاني منها الثقافة والمثقفون، هي حالة غياب الوعي للمثقف نفسه، وتشبّه الثقافة بالقطاعات الأخرى ومجاراتها والتأثّر بها، بدلا من التأثير فيها وتغيير أفكار وأنماطها السلوكي، كما يحدث في الطبقة السياسية ولهاثها نحو المكاسب في مقابل تضييع فرص بناء الدولة الحقوقية المدنية القادرة على حماية حقوق الشعب، وفي مجمل الحالات نحن نحتاج الى ثقافة لا تعاني من إشكاليات التذبذب والتردد والمنفعة، والتبعية للسياسة.
اضف تعليق