الصحيفة مفرد، والصحف جمعا، تمتلك ذلك المعنى الإلهي والعمق الروحي الذي ضخه القرآن الكريم في مفردات لغوية تحولت إلى مفردات استثنائية، وواصلت سيرها وحضورها في تاريخ الإيمان وهي تحمل عبق الوحي بعد ان اختارها ليضمنها فرادة المعنى ويضخ في ألفاظها المعنى الذي يحيلها إلى دائرة المقدس – المطهر.
جاء في لغة العرب
صَحَّف: يصحّف تصحّيفا فهو مصّحِف والمفعول مُصَّحَف.
صَحَّف الكلمة: كتبها أو قرأها على غير صحتها.
والصحيفة أسم والجمع: صُحُف.
قال الكسائي: والصحيفة الكتاب وقال ابن منظور الصحيفة: التي يكتب بها.
وفي معنى لفظ صحف: الصحيفة: المبسوط من الشيء كصحيفة الوجه. ولعل المراد به الظاهر في دلالته ووجهته فليس هناك أشد من الظهور في الوجه.
وقد أطلق القرآن الكريم على بعض الكتب المنزلة من الله تعالى أسم الصحف فقال تعالى "صحف إبراهيم وموسى" -سورة الأعلى، آية، 19- وقال تعالى "رسول من الله يتلو صحفا مطهرة"-سورة البينة، آية، 2-
والتوراة التي هي صحف موسى، هي ألواح بنص القرآن الكريم، واللوح هو ما يكتب عليه خطا فهي مخطوطة، مكتوبة وحيا من الله تعالى قال تعالى "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ" ولا عبرة في تفريق البعض بين التوراة والصحف والألواح، فكتاب موسى هو التوراة التي وصفها الله تعالى بالألواح وبالصحف الأولى، وأن صحف إبراهيم على شاكلتها في الكتابة – الخط، وهناك صحف إدريس النبي التي أكثرت الرواية الإسلامية النقل عنها وقد ضمنها الشيخ محمد باقر المجلسي في كتابه بحار الأنوار في مجلده الثامن والثلاثين.
وقد اختصت تلك الصحف الخاصة بأنبياء الله تعالى العظام بالمسائل الروحية والتربوية الإلهية، وخلاصتها في الحكمة الموحاة من الله تعالى لأنبيائه ورسله، فلم تكن تشتمل على تشريعات دينية وأحكام إلهية، بل غاية أمرها الوعظ والنصح والهداية إلى طريق الله تعالى، وقد ذكرت كتب الشيعة الأمامية وأصولهم روايات الأئمة عليهم السلام عن هذه الصحف لاسيما التوراة والزبور " والزَّبرُ الكتابة............. وغلب الزبر على صحف داود " أبن منظور.
وهذه الصحف في مجملها مفردات نبوية وتربوية إيمانية، وقد وردت الرواية في وصفها بأنها مجموعة من الأمثال و العبر، فقد سأل أبا ذر النبي محمد "صلى الله عليه وآله" عن صحف إبراهيم ما كانت؟ فقال "صلى الله عليه وآله": كانت أمثالا كلها، وقد ذكر النبي له مقاطع منها في الظلم والعدل والعقل، وحين سأله عن صحف موسى قال له: كانت عبرا وذكر له منها مقاطع في الموت والقدر والحساب – تفسير القرطبي، سورة الأعلى.
ونقل الشيخ محمد باقر المجلسي في كتابه "بحار الانوار، كتاب الذكر والدعاء" صحيفة إدريس النبي، معتمدا على ترجمة منقولة من اللغة السريانية الى العربية ومترجمها أحمد بن الحسين المعروف بابن متّويه الذي وجدها ممزقة ومندرسة، فعمل على إصلاحها وترجمتها ولم يغير معنى فيها وفق قوله، وهي لا تخرج عن تلك المعاني في العبر والامثال في صحف الانبياء، وفيها خطاب من الله تعالى للنبي إدريس تتخللها مناجاة للنبي إدريس، وهذه الصحيفة المترجمة غاية في المثال الروحاني الجميل.
وفي تاريخ الإسلام الروحي والعلمي إختص اسم الصحيفة أو الصحف بالمدونات الروحية والعلمية الصادرة مباشرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام إملاء وخطا، مثل صحيفة الزهراء والصحيفة الخضراء، ثم مصحف فاطمة وهي مدونة علي ابن أبي طالب عليه السلام بخطه وبإملاء من رسول الله، وأقوى الآراء فيها أنها تدوين للقرآن الكريم جمعا وترتيبا على حسب أزمان نزوله وتأويلا، فقد وضع تأويل كل آية بجوارها وهو تأويل رسول الله صلى الله عليه وآله.
ونجد أن اسم الصحيفة أو الصحف أكثر شيوعا في أدبيات وروايات الشيعة من باقي فرق الإسلام، وقد قيل فيها صحف الإسلام –أغا بأزرك طهراني– وهي لاتخرج في المعنى عن تلك المدونات الروحية والدينية الخاصة بالأنبياء والرسل السابقين في كتب التفسير لدى المفسرين من غير الشيعة ناهيك عن مفسري الشيعة، وهو مايوثق اختصاص الصحيفة أو الصحف بالمعنى الروحي حصرا في الأديان ومنها الإسلام، ويتجلى المعنى الروحي أحيانا علما وأحيانا حكمة وأحيانا دعاء.
لكنها أخيرا وفي عصور متأخرة خرجت عن اختصاصها بكتب ومدونات أئمة الهدى من أهل البيت لتكون عنوانا لكتب ومدونات أخرى ولمؤلفين فقهاء وعلماء وسموا كتبهم باسم "الصحيفة" وينقل آغا بزرك الطهراني في مصنفه "الذريعة " مجموعة من أسماء هذه الكتب وبعنوان الصحيفة وهي تظل في أغلبها تدور أو تبحث في المعاني الروحية والدينية الخالصة – راجع، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج15، مادة "ص ح ي" – ولعل في مقدمة تلك الصحف الروحية الموروثة عند الشيعة الأمامية وأهمها هي الصحيفة السجادية أو الصحيفة الكاملة كما وردت في أمهات كتب الأمامية.
تاريخ الصحيفة السجادية
كلمات الأئمة وأقوالهم هي مصادر في العقيدة والتشريع عند الشيعة الأمامية، وقد تعددت صور الفهم لطبيعة مصدرية علمهم في العقيدة والشريعة، فمن روايات النقر بالأسماع، إلى روايات الروح القدس الذي يسددهم في القول والفعل، إلى الإلهام في الحديث، وقد وردت الروايات بأنهم قوم محدثون، وهي آراء وان اختلفت في المسمى، لكنها اتفقت بالمعنى والذي عبرت عنه الروايات الإمامية بالعلم اللدني، وقد كان الأئمة عليهم السلام يبينون علل الشرع ودليل التشريع من الكتاب والسنة، فحكمهم لا يزيد ولا ينقص عن الكتاب، بل هو ترجمانه وتمامه، ولذلك قيل فيهم تراجمة وحي الله تعالى.
وإذا كان أكثر ما روي عنهم هو الحديث الشفوي بالسند والسلسلة حتى قيل في بعضها السلسلة الذهبية لان سندها إمام عن إمام، إلا انه قد صحت لهم في الرواية الإمامية بعض الصحف إملاء وتدوينا وقد ذكرنا بعضا منها لكنه لم يتبقى في المتناول منها غير مدونة "الصحيفة السجادية".
وقد سبقت هذه الصحيفة مصنفات أو صحف للإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام وبعض من أصحابه، ونجد ذلك في قول الفقيه ابن شهر أشوب في كتابه معالم العلماء فهو يقول "الصحيح إن أول من صنف أمير المؤمنين ثم سلمان ثم أبي ذر ثم الاصبغ بن نباته ثم عبد الله بن أبي رافع ثم صنف الصحيفة الكاملة" ويعني بها الصحيفة السجادية ويبدو إن هذا الاسم "الصحيفة الكاملة" قد اختص بها من بين سائر صحف أهل البيت وقوله صنف بمعنى ألَّف وكتب ودوَّن.
وتشير الرواية عن هارون بن المتوكل وهو راوي الصحيفة أنها كانت تحفظ ليس رويا شفويا، بل تحفظ خطا مكتوبا وحرفا مدونا، وهي نسخة زيد الشهيد ابن علي ابن الحسين التي ورثها عنه ولده يحيى وحملها معه في منصرفه إلى خراسان بعد قتل أبيه زيد الشهيد، وقد عرضها الراوي بعد لقائه بيحيى هذا على النسخة التي كانت بحوزته وقد استنسخها عن نسخة أصل كانت بحوزة وريث الأئمة جعفر بن محمد الصادق وقد انتقلت إليه من أبيه الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين فيما انتقل إليه من مواريث أبيه، وبعض منها من متعلقات ومقتضيات الإمامة عند الشيعة الأمامية، ووجد الراوي تطابقا تاما بين النسختين مما يؤكد وحدة المصدر واتفاق الرواية متنا وعلوها قدرا وسندا، فقد أورثها وأملاها بمعنى صنفها إمام هو زين العابدين وسيد الساجدين علي ابن الحسين وخطها إمام هو الباقر وشهيد فقيه هو زيد، ويدل على ذلك قول جعفر بن محمد الصادق حين عرض نسخة الصحيفة التي بحوزته "هذا خط أبي وإملاء جدي عليهما السلام وبمشهد مني " وشهد على النسخة التي حاز عليها الراوي هبة من يحيى ابن زيد الشهيد بأنها بخط عمه الشهيد زيد، فقد عرف خطه بمجرد أن نظر إليه بعد أن عرضها عليه الراوي الذي أوصاه يحيى صاحبها بإيصالها إلى بني عمومته محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن المجتبى، ورغم أن الرواية المعتمدة هي نسخة الراوي الأول هرون بن المتوكل وقد ذكر عدد أبوابها وما سقط منها، الا أن نسخا أخرى ظهرت في تاريخ هذه الصحيفة وزادت في بعض أدعيتها.
وكان الباحث الكبير في المصنفات الأمامية آغا بزرك طهراني أطلق اسم الصحيفة السجادية الأولى على نسخة هرون بن المتوكل التي يؤكد انتهاء سندها إلى الإمام علي بن الحسين، إلا انه ذكر نسخة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وهي تحمل اسم الصحيفة السجادية، وذكر الطهراني أن "77" دعاء في الصفيحة الرابعة غير مذكورة في بقية الصحف وأن الصحيفة الخامسة انفردت ب "52". دعاء وأورد الطهراني رد صاحب الرياض الذي جمع الصحيفة الثالثة على المحدث الحر العاملي جامع الصحيفة الثانية بان صحيفته هي الثالثة وان هناك من العلماء من سبقه إلى جمع الصحيفة السجادية، وعليه فان صحيفة الحر العاملي هي الثالثة وليس الثانية وبذلك تكون عدد نسخ الصحيفة السجادية هي سبع نسخ وليس ست نسخ.
لكن يبدو أن هذه الزيادات في الأدعية الواردة بعد الصحيفة الأولى أو الصحيفة الأصل هي من مصادر ومضان أخرى قد جمعها أصحابها من روايات وكتب الأمامية الأخرى.
وقد ذكر الطهراني أن الحر العاملي استخرج صحيفته السجادية من الأصول المعتمدة عند الأمامية ذاكرا أسماءها في هامش نسخته، لكن الحر العاملي يقول في نهاية نسخته "هذا ما وصل إلي من أدعية مولانا علي بن الحسين مما خرج من الصحيفة الكاملة" وتشير كلمته الأخيرة بأنها مما خرج من الصحيفة الكاملة الى احتواء هذه الصحيفة على أصول أخرى وان ما خرج منها فقط هو هذا الدعاء الذي تناولته الرواية الأمامية بأخبار الإجازة بروايتها وتفاصيل ذكرها...
الصحيفة الكاملة - السجادية في الرواية الأمامية
ظلت تسمية الصحيفة الكاملة تلازم الصحيفة السجادية وتطغى على اسمها حتى أزمان متأخرة، فهناك نسخة بخط الشيخ زين الدين علي المعروف بالشهيد الثاني والمتوفي في العام 966هجري وهي تحمل عنوانها الأصل "الصحيفة الكاملة" وقد ذكرها الشيخ آغا بزرك طهراني بهذا الاسم ضمن أسماءها الأخرى التي أطلقها فقهاء وعلماء الشيعة عليها مثل "أخت القرآن" و"أنجيل أهل البيت" و"زبور آل محمد"، وظلت ترافقها تسمية الصحيفة الكاملة أزمنة طويلة، فقد ورد اسمها بالصحيفة الكاملة في إجازات الفقهاء المتأخرين لطلاب العلم، فجاء في إجازة الفقيه محمد باقر الخراساني المتوفي في العام 1090هجري لطالب إجازته محمد شفيع في رواية الصحيفة "إستجاز مني رواية الصحيفة الكاملة الشريفة الفاضلة السجادية" وذكر أسانيدها المتعددة وسلاسل الوصول إليها من رواتها في العصور المتقدمة، وكذلك إجازة الأمير ماجد بن جمال الدين الدشتكي لطالب إجازته في روايتها وهو محمد بن شفيع أيضا، فذكرها باسم الصحيفة الكاملة دون السجادية وعبر عنها بالمعروفة من بين صحف الإسلام بإنجيل أهل البيت وزبور آل محمد وذكر اشتهارها في أعصر الشيعة الأولى "اشتهارا أغناها عن مد سلاسل العنعنة والإسناد".
وزادت الطرق الكثيرة في روايتها على الآلاف نقلا عن الشيخ محمد تقي المجلسي في إجازته لولده الشيخ محمد باقر المجلسي وهي تحمل هذا الاسم الصحيفة الكاملة على ما يبدو، واكتفى المجلسي الأب بذكر ستمائة طريق عالية في روايتها مما يكشف عن سعة اهتمام الشيعة في تلك العصور بروايتها وحفظها ونقلها. وكان الشيخ المجلسي صاحب الإجازة يرويها باسم زبور آل محمد وإنجيل أهل البيت والصحيفة الكاملة ولم يطلق عليها في إجازته اسم الصحيفة السجادية، الا إن ولده محمد باقر المجلسي صاحب بحار الأنوار أطلق عليها هذا الاسم في رسم عنوان إجازة والده له في روايتها فقال "رواية أخرى للوالد العلامة للصحيفة الكاملة السجادية... وهي بخط الوالد العلامة" وذكرها بنفس العنوان في إيراده أسانيد أخرى لها – راجع بحار الانوار، كتاب الإجازات، مج43 –
ولعله من هنا انتشرت واشتهرت باسم الصحيفة السجادية، علما أن الشيخ محمد باقر المجلسي عاش في القرن الثاني عشر الهجري وتوفي في العام 1111هجري، ولم يذكرها كلها في بحاره ويبدو أن انتشارها واشتهارها بين الشيعة في عصره أغناه عن ذكرها، لكنه نقل المناجاة الخمسة عشر منها ونقل مناجاة أخرى باسم المناجاة الإنجيلية – راجع، بحار الانوار، كتاب الذكر والدعاء، كتاب الذكر والدعاء،مج 83 –
لكن هناك خلط واضح في روايته للمناجاة الخمسة عشر وأدعية الايام المروية عن الإمام علي ابن الحسين والخاصة بكل يوم، وهي عند البعض مما الحق بالصحيفة السجادية فهي ليست من الصحيفة أصلا، لكنها صادرة عن الإمام علي بن الحسين في مصادر روائية أخرى غير الصحيفة. فالمجلسي يقسم تلك المناجاة الخمسة عشر على عدد أيام الأسبوع ولاختلاف العدد بينها وبين أيام الأسبوع فانه يضطر إلى نسبة مناجاتين مختلفتين إلى يوم واحد في أسبوعين متتاليين وأخرها ليلة الجمعة حتى تكتمل المطابقة بينها وبين أيام الأسبوعين، فهناك المناجاة الأولى مناجاة التائبين ليوم الجمعة وفق روايته، لكنه يضطر الى نسبة المناجاة الثامنة وهي مناجاة المريدين إلى يوم الجمعة مرة أخرى، وهو ارتباك وخلط يستمر مع كل تلك المناجاة، بينما سياق الدعاء وطبيعته لا يسمح باقتران المناجاة بيوم من الأيام، فالمناجاة مع الله لا تتحدد بزمان أو وقت، لكن بالنسبة للأيام فانه لكل يوم دعاء خاص به وباسمه كما هو وارد في النص الملحق بالصحيفة السجادية والمتداولة الآن بين عبّاد ومتديني الأمامية، وهو تقليد راسخ في الدعوات والأعمال الصالحات المروية عن أئمة الهدى عليهم السلام، فلكل يوم دعاء خاص وصلاة خاصة وتسبيح خاص واستعاذة خاصة.
ورغم أن أدعية الأيام لم تروى في الصحيفة عند البعض وإنما ألحقت بها، فإنها من صنف دعوات الصحيفة السجادية وضمن سياقاتها لقوة عباراتها الروحية وجزالة ألفاظها في معانيها الإلهية، وأما المناجاة الإنجيلية التي أوردها الشيخ المجلسي في بحاره فإنها قد رويت عن الإمام علي ابن الحسين، لكنها لم ترد في أدعية الصحيفة رغم أن اسمها يوحي بأنها من مأثورات هذه الصحيفة التي قال عنها العلماء والرواة أنها إنجيل أهل البيت، وهنا تأتي المطابقة بينها وبين المناجاة الإنجيلية الآنفة التي تمتاز بطولها وقوة معانيها الروحية وتعدد أبوابها في الحمد والتمجيد والاستغفار والصلوات على النبي وآله، وهي ليست بهذا على طريقة الصحيفة السجادية من حيث طول هذه المناجاة وتعدد أبوابها، فقد اختصت أدعية الصحيفة السجادية بأبواب منفردة ودعوات مستقلة بعناوينها من التهليل إلى الحمد إلى التمجيد إلى الصلاة على النبي وآله إلى عناوين خاصة بالمناجاة، والدعاء فيها يختص بباب دون غيره.
ولكن السؤال هل هذه الصحيفة السجادية المروية والمتداولة بين العبّاد من الشيعة هي الصحيفة الكاملة كلها أم هي أجزاء منها؟
هوية الصحيفة الكاملة والجزئية
إذا كانت الرواية تضمنت خمس وسبعين بابا وهي عدد الأدعية التي أملاها أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق على هرون بن المتوكل وقد سقط منها عن الراوي وفق قوله أحد عشر بابا، فان ماتبقى منها وحفظها الراوي هي نيفا وستين بابا، وبهذا فان الصحيفة الكاملة أو السجادية أو الدعاء الكامل الذي ورد بهذا الاسم في روايتها كتبت ودونت بخط راويها هرون بن المتوكل، لكن الصحيفة الكاملة بكاملها لم تملى عليه ولم تدون بخطه، بل حفظت عند أئمة الهدى صونا لها من الوقوع بيد أعدائهم من حكام الجور، وهو ما تؤكده كلماتهم عليهم السلام في رواية الصحيفة نفسها، وسياق الرواية يؤشر أن أحداثها وقعت في زمن بني أمية وقبل وصول بني العباس الى الحكم، ثم كانت فيما اختفى من آثار أهل البيت عليهم السلام من المدونات والمخطوطات، وقد نجت أحاديثهم من الانقراض والاختفاء بفضل الرواية الشفوية دون الكتب المدونة والمنصوصة عنهم، ومما يؤكد هذا القول ويوثقه أن يحيى بن زيد الشهيد بعد إن أمر غلامه بنسخ الدعاء الذي دفعه إليه الراوي أخرج من صندوق كان معه في رحلته نسخة من صحيفة مقفلة مختومة وكان يحتفظ بها ويحترس من وقوعها بيد أعدائه من بني أمية لان فيها علم كما يقول يحيى بن زيد الشهيد وهو يخشى (أن يقع مثل هذا العلم إلى بني أمية فيكتموه ويدخروه في خزائنهم لأنفسهم) وبنو أمية لا يعيرون أهمية تذكر للدعاء وصحف الدعاء، ولكنهم كملوك يهتمون بتحصيل المعارف والعلوم وذلك دأب الملوك قديما في دولهم، وهو ما يؤكده قول يحيى "يدخروه في خزائنهم لأنفسهم"، وإشارته إلى العلم الذي في هذه الصحيفة الكاملة يكشف عن هويتها وأنها كتاب علم وفقه ودين، والدعاء المروي عنها هو جزء منها وليس كلها، لاسيما وانه في العرف الكتابي – التدويني القديم عند المسلمين أن الصحيفة اسم يطلق على كتب الفقه والحديث ورواية الأحكام، ومنها صحيفة الديات لمولانا أمير المؤمنين ولا يمكن قبول الرواية التي تختصرها ببضعة أحكام قليلة يمكن حفظها عن ظهر قلب لقلتها دون الحاجة إلى كتابتها وتدوينها، وقد نقلت الرواية انه عليه السلام كان يعلقها بحمائل سيفه، وهناك صحيفة الرضا والمعبر عنها بمسند الإمام الرضا أو صحيفة أهل البيت وهي تروي مائتين وأربعين حديثا منسوبة الى الإمام الرضا – آغا بزرك ج 15 ص 17-،، وإذا كان يحيى قد عبّر عن النسخة التي بحوزته " بصحيفة الدعاء الكامل " لكننا نجد أن الإمام جعفر بن محمد الصادق يخبر عنها الراوي أنها (من دعاء الصحيفة الكاملة) مما يوحي بأنها جزء من أدعية ولعلها من أجزاء أخرى غير الدعاء مروية في هذه الصحيفة الكاملة.
ومما يوثق احتوائها على العلم إضافة إلى الدعاء فيها والذي عبّرت عنه الرواية بالدعاء الكامل أننا لا نجد في تراث المسلمين أن العلم يطلق على الدعاء، فالعلم له معاني متفق عليها في مجاله الاصطلاحي والعلمي، ولم يكن الدعاء واحد من اصطلاحاته ومعانيه، ولذلك فان قول يحيى بن زيد الشهيد في وصف الصحيفة بان فيها علم وهو يخشى وقوعه بيد أعدائه يؤكد رأينا بان الصحيفة السجادية هي جزء من صحيفة أوسع في أبوابها وأكمل في معارفها ولذلك قيل فيها الصحيفة الكاملة وهي صحيفة علم وفقه ودين...
اضف تعليق