q

ولي قصةٌ تجرعتُ فيها كؤوس الخيانة، جفاءُ من حولي يَذَرْني طريحةً في غيابت الوحدة، مائي الذي جفاني أختار كتمان تَوجُعي على أن يظُهرَ شلالات حزنه.

ربيعي الذي كنتُ مكتنفة في حضنه تحوّل الى صحراء قاحلة حتى من أشواكها، تغاريد طيوري اكتفت بالصمم، نسائم الهواء التي تمر بي تحولت الى لهيب يأخذُ ترائبي، بتُّ أغبط تلك الاراضي التي وطأتها اقدامُ أحبتِها، وأراضٍ تنعمتْ بسجدة عشقٍ على ثراها، آلامي كثيرة تمتد لعهودٍ من الصبر والجزع، أتعبتكم بحزني سأروي لكم تلك القصة التي تحمل في طياتها فصلين ربيعٌ وخريف لا غير.

كنتُ أرضا بسيطة تعيش فيها بعض القبائل العربية، أعاني من جَورهم وأرى عجائبهم من وأد لفتيات وشربٍ للطُرق واقتياتٌ للقدّ ومشاكلُ قبائلٍ تُنزفُ فيها ارواح العبيد، حتى أعلن ذلك اليوم الذي قَدِمَ فيه رسول رحمة ربّ العالمين، أتى مهاجراً، سمعتُ بذلك الخبر من أثرِ وقع من يتراكضون على تربتي، تحضرتْ الناس وحتى الشجيرات التي نبتتْ من تربتي، والطيور المغرّدة في سماءِ بارئها، كلٌ أعلن الاحتفال بطريقته، انتظرتُ مروره، تمنيتُ أن أحمل أقدامه على تربتي المتواضعة كان حلمي ذلك في تلك اللحظات، تعانقتْ تربتي مع الريح وصنعتْ دوامة بسيطة من التراب المبتهج، ثم حل الصمت، نعم هذه خطوات رسول الله اسمعها تمرّ، خطواتٌ هادئة تحملُ من ثقلِ النبوة ما لم تستطعْ أرض استيعابها.

ثم مرتْ الايام بسلام والربيعُ أعلن الاخضرار الدائم على تربتي، كان رسول الله كلما مرّ من جنبي اسمعه يقول سَتُدفن بضعة مني هنا، لم أعِ ذلك ولم أفهم لكن كنت أفرحُ بأن سأنال شرف احتضان جسد بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مرت خمسون سنة على وفاة رسول الله وعشتُ خلال تلك المدة أسمعُ من النفاق على أرضي ما لم يحمله بشر ولا جماد ولكن كان وجود ابناء رسول الله هو أنيسي.

وفي السنة الخمسين او التاسعة والاربعين للهجرة، أُعلِنَ خبر وفاة السبط الاول للهادي الامين، وبعد صراعٍ أُختيِرتْ ارضي لاحتواء ذلك الطهر، كنتْ فرحة بذلك من جهة، وحزينة لأنه لم يدفن قرب جده، احتضنتُ ذلك الجسد المبارك وتذكرت كلماتْ رسول الله حينها، ثم تلت الأحداث على مسمعي حتى شُرّفت باحتضان اربعة اجسادٍ من عترة رسول الله، فضلاً عن جسد صاحبة الوفاء أم الأطهار الأربعة ام البنين، لا أطيلُ عليكم بُنيت على تربتي قباباً لهم، عشتُ السعادة بذروتها، كنتُ استمتع بوطء أقدام زوارهم، كنتُ أسمع سجود محبيهم على تربتي، أسمع تعازيهم ومباركاتهم في كل مناسبة.

استمرت أيام البهجة وأُذُنَي تستقبل تراتيل الحب والاخلاص ومناجاة الوفاء وتلاوات زياراتهم وحوائجهم والاستبشارات بقضائها، حتى أتى ذلك اليوم الذي حاولوا تهديمهم واتفقوا على ذلك، سمعتْ ذلك، هاجتْ ذرات ترابي وأعلنتُ عاصفة الغضب، حاولتُ منع تلك المؤامرة لكن عجزي عن مقارعة البشر حال دون ذلك، كنتْ أتمنى أن يأمر الله بأن تُشق أرضي وتبتلعهم، كنتُ أتمنى أن أتحول الى بركان ليمحوهم، لكن شاء الله أن يكون الثأر بيد صاحبه، هُدّتْ تلك القبور وهدتْ معها روحي، ونبت الخريف على تربتي رافضاً الزوال وعجزت وتصلّبتْ تربتي وآليتُ أن لا ينبتُ عليَّ زرعٌ مثمرٌ، حتى لا يستفاد منهم ديارا، ولا ينتفع منهم احد، وباتَ همي بناء تلك القبور التي أدمتْ شيعَتها عليها الجفون.

ولا زلتُ أغبط أراضي العراق فهي احتضنتْ بكل دفء زوار مراقدها، ووقفتْ أمام كلِّ ظلم وجور وعَمّرتْ تلك الصروح، واصبح السباق إليها من كل صوب وجانب، لِيَحْضَون بجنان الخلد، ورُفِعت الرايات وضجيج المواكب في كل مكان، إلا انا بتُ قفراء أخلو من أحبتي، معانقة للفراق الذي تتفاقم آفاته في تربتي، وتذرني طريحةً للحنين، ولم يبقَ لي رجاء سوى ذلك المُغيّب الذي سيعيد أمجاد مزاراتي المهدمة، ويبني قباباً أربع ويبني قبة خامسة لمزار من كانت ولا زالت قبلة للحوائج، وعندها سينتهي خريفي، من مخاضه معلناً ولادة ربيع لا يزول.

اضف تعليق