حُظي (نهج البلاغة) هذا السفر العظيم من الأهمية ما لم يحظ به كتاب غيره لما احتوى من مختلف العلوم الآداب فعُني به الشارحون والدارسون حتى بلغت شروحه (110) شرحاً، وبقي ينبوعاً ثراً يتحدّى العصور تقتبس منه الأجيال وتنهل منه الأزمان.
يقول جورج جرداق في كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) (ج3ص145): (نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر، مترابط بآياته، متساوق متفجر بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والذوق إلى معرفة ما وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول، أو الشكل بالمعنى اندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس والهواء بالهواء، فما أنت إزاءه إلا ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر والبحر إذ يتموج والريح إذ تطوف).
فلا تجد كتاباً أغنى وأفصح وأثرى لغة وعلماً في تاريخ العرب من نهج البلاغة سوى القرآن الكريم، كما لا تجد شخصية من شخصيات التاريخ وعظمائه قديماً وحديثاً من الخطباء والبلغاء تميّز بالذوق الرفيع والبلاغة الآسرة والذخيرة الواسعة من العلم أعظم من علي بن أبي طالب (عليه السلام) سوى أفصح العرب صاحب البيان النبوي الرسول محمد (صلى الله عليه وآله).
وقد ضمّ نهج البلاغة بين دفتيه، ما لم يحوه كتاب سوى كتاب الله العزيز، من الأمور التي ترسم للإنسان علاقته مع ربه ومع نفسه ومع المجتمع، كما رسم هذا النهج العظيم، العلاقات بين كل شرائح المجتمع المختلفة، والتي تكوّن بمجموعها المنظومة الاجتماعية النموذجية المتكاملة.
قيادة الأمة في نهج البلاغة
ولم يغفل نهج البلاغة، وقد ضمّ كل هذه الأمور الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، جانباً عظيم الأهمية في حياة الأمة الإسلامية، ألا وهو دور قيادة الأمة بعد الرسول الكريم، والسير بالمسلمين وفق ما جاء به النبي الأكرم، (صلى الله عليه وآله)، والشريعة السمحاء وتطبيقها وهو الدور المناط بآل البيت الأطهار (عليهم السلام)، كما دلّت على ذلك الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث الرسول الكريم وأكدته سيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ولا يخفى ما لهذا الدور من أهمية في حياة الأمة، فهو الذي يرسم لها مسارها الذي اختطه الله لها في تطبيق الإسلام الصحيح كما نوّهت عليه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)، حيث قرنت هذه الآية طاعة الأئمة بطاعة الله والرسول وأعطت صلاحيات لأولي الأمر بعد الرسول يقتضي على الأمة بموجبها الطاعة في كل أمر ونهي وأن تعمل بمقتضى هذه الأوامر بأي عمل يأتي عن طريق أهل البيت - أولوا الأمر- لم يرد فيه نصّ تشريعي يدل على إباحته أو حرمته أو وجوبه أو استحبابه فهو يعطي صفة ثانوية للأحكام التي ثبت تحليلها أو تحريمها عن طريق الكتاب والسنة.
إذن فقد تحدد لأولي الأمر دور عظيم في قيادة الأمة وفق ما جاء به الرسول الكريم وقد أجمعت النصوص والأحاديث النبوية الشريفة والروايات المعتبرة على أن أولي الأمر المنصوص عليهم في القرآن هم أهل البيت ـ الأئمة الاثنا عشر ـ (عليهم السلام)، وكذلك دلت سيرتهم العظيمة على أنهم هم الامتداد الطبيعي لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاء الله في أرضه.
الموارد الثلاثة
ولو قارنت بين الآيات الشريفة التي نزلت بحق أهل البيت في القرآن الكريم والتي أكدت على أنهم هم ولاة الأمر، والأحاديث الشريفة التي نصت عليهم، وبين ما جاء بحقهم في نهج البلاغة لوجدت التطابق في صفات (أولي الأمر) بعد الرسول و(الخلفاء) على الأمة من بعده في هذه الموارد الثلاثة وهي القرآن والسنة ونهج البلاغة.
ولسنا هنا بصدد سرد تلك الروايات الكثيرة والنصوص المستفيضة حول هذا الأمر الذي أجمع عليه أئمة الحديث والرواة إلّا من شذّ منهم وأعمته العصبية الجاهلية أو انقاد تحت مظلة حكام الجور واقتات على موائد الظالمين، ولكننا بصدد ما جاء بحقهم وتبيان منزلتهم العظيمة وإبراز دورهم القيادي الفذ في الأمة كما جاء على لسان سيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة.
الثقل الأصغر
وقد استقى أمير المؤمنين (عليه السلام) في الوصية إليهم وإرشاد الناس إلى طاعتهم من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي طالما أكد على المسلمين وجوب طاعتهم فهم الثقل الأصغر كما في قوله:
(إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم).
وقال (صلى الله عليه وآله) في مورد آخر:
(أيّها الناس خذوها من خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّه يموتُ من ماتَ منّا وليس بميّت، ويبلى من بلي منّا وليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون، واعذروا من لا حُجة لكم عليه ـ وأنا هو ـ ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر، وأترك فيكم الثقل الأصغر، وركزتُ فيكم راية الإيمان) ؟
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نفس السياق وهو يؤكد على اتّباع أهل البيت (عليهم السلام):
(أنظروا أهل بيت نبيّكم فألزموا سمتهم، وأتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، وإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا)
كما جاء ذكرهم ووصفهم (عليهم السلام) في العديد من المواضع في نهج البلاغة منها ما جاء من ضمن خطبة له (عليه السلام) تحت عنوان: (ومنها يعني آل النبي (عليهم السلام):
(هم موضع سره، وملجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمته، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه).
وقد علق الشريف الرضي على هذا القول بقوله: (ومراجع الضمائر الأربعة في أمره، وعلمه، وحكمته، وكتبه عائدة إلى الله).
شجرة النبوة ومحط الرسالة
كما لا يخفى أن هذه الصفات لا تنطبق على سواهم من البشر وهي مخصوصة بهم دون غيرهم ممن ادعوها، ولا يشاركهم بها أحد من الناس سوى الأنبياء والأوصياء، فهم (عليهم السلام) حفّاظ أسرار الله وخزّانها كما دلت على ذلك الروايات الكثيرة في ذلك عنهم (عليهم السلام) يقول أمير المؤمنين:
(نحنُ شجرةُ النّبوة، ومحطّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ومُحبّنا ينتظر الرحمة، وعدوّنا ومبغضنا ينتظر السطوة)
ويقول (عليه السلام): (نحن النجباء، وأفراطنا أفراط الأنبياء، وحزبنا حزب الله عزّ وجلّ، والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن سوّى بيننا وبين عدوّنا فليس منّا)
ويقول (عليه السلام): (فأين تذهبون وأنّى تؤفكون؟ والأعلام قائمةٌ، والآياتُ واضحةٌ، والمنارُ منصوبةٌ، فأين يُتاهُ بكم، بل كيف تعمهون وبينكم عترةُ نبيّكم، وهم أزمّة الحقّ، وأعلام الدّين، وألْسنةُ الصّدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، ورِدُوهم ورود الهيم العطاشِ).
الراسخون في العلم
وهم (عليهم السلام) الراسخون في العلم كما جاء في القرآن الكريم وقد كذب من ادعى ذلك غيرهم كما أكده نهج البلاغة:
(أين الذين زعموا أنهم الرّاسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهُدى، ويُستجلى العمى، إنّ الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاّة من غيرهم)
وهم شعار النبوة الله وخزنة العلم وأبواب الله التي منها يؤتى ولهم منه فصل الخطاب يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
(نحنُ الشّعار والأصحابُ، والخزنَة والأبوابُ، لا تُؤْتَى البيوتُ إلاّ من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقاً).
ورحم الله القائل وقد ضمّن هذا القول في بيتين يقول فيهما:
إني لمدحِ بني النبيِّ لعاشقُ *** والنظمُ يشهدُ لي بأنيَّ صادقُ
من جاءَ بالقولِ البليغِ فناقلٌ *** عنهم وإلّا فهو منهم سارقُ
فهم ترجمان القرآن وورثة النبوة قولهم حق وصمتهم حكمة يقول أمير المؤمنين:
(فيهم كرائمُ القرآن، وهم كنوزِ الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يُسبقُوا)
سر الله
وقد تواترت الروايات عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على أن الله تعالى خصهم بعلم لم يخص به أحداً من العالمين، ومن هذه الروايات ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الكافي قوله:
(إن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله أحداً ذلك الحمل غيرنا، ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا، وإن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، أمرنا بتبليغه فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حمّالة يحملونه، حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمداً (صلى الله عليه وآله)، وذريته ومن نور خلق الله منه محمدًا وذريته، وصنعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمداً وذريته، فبلغناهم عن الله عز وجل ما أمر بتبليغه، فقبلوه واحتملوا ذلك).
ويتوضح من هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وهو الإمام المعصوم أن هناك علماً خصّه الله تعالى بهم دون غيرهم، وهذا ما أكدته روايات كثيرة بهذا الصدد عن الأئمة (عليهم السلام) لا تحصى.
ويظهر صوت نهج البلاغة (أمير المؤمنين) جلياً في حق أهل البيت بالولاية بعد الرسول والخلافة على الناس باجتماع خصال فيهم لم تتوفر عند أي من البشر:
(لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين، وعماد اليقين، وإليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة).
وفي المقطع الأخير من الخطبة يبين أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الخلافة والولاية هي إرثهم وحقهم وهم المنصوص عليهم من الله بها.
الجادة الوسطى
ولا شك أن كل العلوم الموجودة عند المسلمين تنتهي إليهم، فقد ورد في الكافي عن سليمان الأعمش عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:
(نحن أئمة المسلمين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها).
كما شبههم أمير المؤمنين (عليه السلام) بـ (الطريق الوسطى) و(الجادة) التي هي طريق رسول الله في الأحكام الشرعية والتعليمات الإسلامية وكل ما يتعلق بأمور الأصول والفروع والواجبات والمحرمات والمكروهات والمستحبات، إضافة إلى الأمور الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفلسفية وجميع مناحي الحياة العامة كما في قوله (عليه السلام):
(اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب والنبوة، ومنها منفذ السنة، وإليها مصير العاقبة).
دعائم الإسلام
وفي مورد آخر يشبههم (عليه السلام) بنجوم السماء كما في قوله:
(ألا إن مثل آل محمد (صلى الله عليه وآله) كمثل نجوم السماء إذا خوى نجمٌ طلع نجم).
وينوّه (عليه السلام) في موضع آخر إلى أثرهم في القرآن الكريم وما جاء بحقهم فيه من الآيات البيّنات والبراهين الساطعات حول فضلهم ومنزلتهم عند الله فيقول:
(فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا).
كما يؤكد (عليه السلام) في موضع آخر على أن أهل البيت هم أقرب الخلق إلى الله وأولى الناس برسوله وأعلمهم بما جاء به من الحق فيقول:
(هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل).
أبواب الحكم وضياء الأمر
والمتتبع لسيرتهم (عليهم السلام) يجد أن تلك النفوس التي أذهب الله عنها الرجس وطهرها تطهيراً هم منار الحق وعلم الرشاد والصراط القويم الذي يهدي الناس في كلّ زمان ومكان ولينقذوهم من الضّلالة إلى أنوار الهداية وهم خير الأوصياء لخير الأنبياء يقول أمير المؤمنين:
(عِتْرتُه خيرُ العترْ، وأُسرتُه خيرُ الأُسرْ، وشجرتهُ خير الشّجر، نبتت في حرم، وبسقتْ في كرم، لها فروع طوال، وثمرة لا تُنال)
ويقول (عليه السلام) وهو سيّد هذه العترة:
(تا لله لقد عَلِمتُ تبليغ الرسالات، وإتمام العدَاتِ، وتمامَ الكلماتِ، وعندنا أهلَ البيت أبوابُ الحِكَم وضياء الأمْرِ).
اضف تعليق