لمن يتأمل هطول المطر وهو يشمل بقطراته السخية كل الانحاء، و دون تمييز بين هذه البقعة او تلك، يدرك جانباً من جوانب العدالة الإلهية وتتجسد أمام ناظره الآية الكريمة: {...رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً}، فهذا الغيث، وهو أحد مقومات الحياة، لا يميز بين الارض الجدب والاخرى الخصبة، كما أن لا يميز بين بني البشر، من هو مؤمن بالله وبين من غير المؤمن.
الحكمة من هذا القانون تكريس حالة التدافع والتنافس على النمو على صعيد الكائنات الحيّة؛ فالماء العذب تشربه الطيور والغزلان وأنواع الماشية، كما تشربه السباع والضباع وغيرها من الوحوش، لان الهدف الاساس ديمومة الحياة بما فيه فوائد عديدة للبيئة والطبيعة، ومن ثم الفائدة للانسان، الذي هو الآخر عليه الاستفادة بصورة عاقلة وحكيمة توافق الحكمة من وجود هذا القانون الذي يتحول عنده الى قيمة مقدسة تمثل أحد أبرز معايير التعامل بين بني البشر.
وهذا يفسر حرص الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، على تجسيد قيمة العدالة في المجتمع، وهو في ذلك يقتفي أثر النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في عدالته المطلقة مع الناس في كل شيء؛ من العطاء الى التكريم وحتى الابتسامة وأداء التحية والسلام والاحترام وغيرها من انواع السلوك الاجتماعي، وهنالك أمثلة عديدة من عدل أمير المؤمنين مع الناس، نذكر منها؛ منعه أحد بناته من لبس الحلي يوم العيد بعد استعارتها من بيت المال، وقال كلمته القاطعة: "وهل كل بنات المسلمين يلبسون مثل هذه الحلي"؟!
لنفترض أن الامام لم يردع تلك الفتاة أو لم يلتفت على ما صنعت، ومضت القضية دون أي رد فعل، ما الذي كان يحدث؟
بالطبع؛ لظهرت الطبقية والمحسوبية والفساد الاداري وغيرها، و لانفجر الغضب والاحتجاج من الوسط الجماهيري، كما انفجر الاحتجاج بدوافع سياسية وما تمخض عن حروب دامية واجهها الامام خلال توليه الحكم، وهذا لم يكن لولا حرص واهتمام الامام وذكائه الاجتماعي، فهو القائل في إحدى خطبه: "...وألبستكم العافية من عدلي"، فاذا كان توقفه عند ذلك الرجل الطاعن في السن وهو يستعطي الناس على الطريق، وكان من أهل الذمة، فكيف كان موقفه من سائر المسلمين؟ يكفي أن نشير الى رسالته الصاعقة والمدوية الى عثمان بن حنيف واليه على البصرة، لمجرد أن بلغ منه حضوره مأدبة لأحد شخصيات البصرة، فهو لم ينتقده فقط على حضوره الى هذه المأدبة لما تستبطن الدعوة شيئاً من التزلّف، بل وانطلق الإمام يعرفه جانباً من جوانب العدل الاجتماعي، ويحذره أشد الحذر من السقوط في مستنقع الطبقية، كما يعرفه بإمامه ومن يكون...؟! ولعل أمض ما جاء في الرسالة؛ "...أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش...".
إن هذه الرسالة وذلك الموقف وأشباههما كثير في حياته وخلال فترة حكمه، هي التي خلقت صمام الأمان لاستقرار المجتمع الاسلامي آنذاك، وجعلته متماسكاً لا يشكو التصدّع، كما حصل للوضع السياسي، فهو، عليه السلام، باستطاعته غلق منافذ الظلم الاجتماعي والاقتصادي بإجراءاته الخاصة، ولكن الامر يختلف اذا "ظهرت حسيكة النفاق" في النفوس، فما عساه ان يفعل؟ هل يغير النفوس الضعاف وينتزعها من حضيض الأنا وحب السلطة والمال؟ فما هذا من السنن الالهية في الحياة لان {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
وإذن؛ عدالة الامام علي، شملت بغيثها المؤمن وغير المؤمن، والموالي والمعارض، وحتى من كان يكفره ويشتمه، وهذا ما يجعلنا نفتخر أمام العالم والاجيال بهذه الخصيصة الحضارية بأن المشكلة في عهد الامام علي، لم تكن اجتماعية ولا اقتصادية، إنما مشكلة نفسية بامتياز، متعلقة باصحابها، فجعلتهم يزلّون عن طريق الحق، وما جرى من اراقة دماء آلاف المسلمين، وما حصل من يتم وترمّل، إنما هو بسبب الانحراف الفكري والطموح السياسي غير المشروع.
ليس هذا وحسب؛ بل ويكشف لنا الامام، عليه السلام، حقيقة أخرى في منظومة العدل، وما لها من تأثير عميق في البناء الاجتماعي؛ ففي كلام له لما عوتب على التسوية في العطاء بأن "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولَّيت عليه..."؟! الى أن يقول: "ولم يضع امرؤٌ ماله في غير حقه، وعند غير أهله، إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودّهم...".
فالعدالة لا تقتصر فقط على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، او بين المسؤولين في الدولة، وبين المواطنين، بحيث نسمع الدعوات للعدالة في العطاء وفرص العمل وغيرها، وإن كانت هي أبرز مظاهرها، بيد إن الدرس البليغ من حياة الامام علي، عليه السلام، هو ما نستفيده في حياتنا الاجتماعية، فما استقر بلد ولا تقدمت أمة، إلا باستقرار شعبها على قيم ومبادئ انسانية بحيث يشعر عامة الناس – على الاقل- أن بامكانهم الحصول على حقوقهم، تبقى مدى الاستفادة من هذه القيمة الانسانية العظيمة، وهذا الغيث الالهي الذي وجدناه ينساب على يد شخص مثل الامام علي، كما جرى على يد سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وربما تستمر المساعي والجهود لاقتفاء الاثر في هذه المسيرة، فربما يكون هنالك من تتقاطع مصالحه مع العدل وحتى مع غيرها من القيم والمبادئ، فهذا شأنه لأن "في العدل سعة، فمن ضاق عليه العدل فان الجور عليه أضيق"، كما جاء في إحدى خطب الامام، أما سائر الناس فان هذه القيمة تمثل بالنسبة لهم غيث السماء الذي يحيي الارض بعد موتها، فتخضرّ القلوب وتنتعش النفوس ويسود الوئام والحب والاحترام.
اضف تعليق