لا يمرُّ يومٌ عليَّ الا ان أَقرأ شيءٌ من [نهجِ البلاغة] فمنذُ أربعينَ عاماً تقريباً وانا احتفظ بنسخةٍ مِنْهُ ملأتها بالإشارات والتّعليقات والاستفهامات بقلمِ الرّصاص، هي عبارة عن تأمّلات في مناسباتٍ مُختلفة.
ليلة أمس أعدتُ قراءة خُطبة الامام المشهورة والمعروفة بالشّقشقيّة، والتي مررتُ عليها لحدّ الآن واستشهدتُ بها عشرات بل رُبما مئات المرّات، الا انّ هذه المرّة كانت قراءتي لها بشكلٍ آخر مُختلف عن كلّ المرّات السّابقة، فلم اتصفّح النص وانّما أثارتني فيها مُلاحظة وردت في آخر الخطبة، لا اعتقد انّ أحداً توقّف عندها كثيراً ان لم أَقُل انتبهَ لها أَحدٌ.
أثارتني وتوقّفتُ عندها مليّاً لتزامن قراءة النصّ مع ما يشهدهُ العراق اليوم، ليتبيّن لي بالقطعِ واليقين انّ طريقة حواراتنا الآن هي ليست جديدة ابداً وانّما توارثناها جيلاً بعد جيلٍ منذ زمن أمير المؤمنين (ع) ولحدّ الآن، ولذلك فالطريقةُ ثقافةٌ في وعينا مهما كابرنا لندافعَ عن انفسِنا او نتبرّأَ منها.
يقول النصّ التّاريخي الموثّق؛
قالوا: وقامَ إِليه، اي للأمام وهو يُلقي خطبتهُ الشّقشقيّة، رجلٌ من أَهْلِ السّواد [العراق] عند بلوغهِ إلى هذا الموضع من خطبتهِ، فناولهُ كِتاباً، فأقبلَ، الامام، ينظرُ فيه، فلمّا فرغ من قراءتهِ قال لهُ ابْنُ عبّاس: يا أميرَ المؤمنين، لو اطَّرَدت مَقالتكَ من حيث أَفضيتَ! فَقَالَ (عليه السلام): هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ!.
قال ابْنُ عبّاس: فوالله ما أَسفتُ على كلامٍ قطّ كأَسفي على ذلك الكلام أَلاَّ يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغ منه حيثُ أرادَ.
انّ من أسوء صفات المتلقّي مُقاطعة المتحدّث خاصّة اذا كان في ذروةِ حديثهِ وعطائهِ، وعدم تركهِ يكمّل حديثهُ او يُنهي فكرتهُ، وهي الصّفة التي نتميّز بها نَحْنُ العراقييّن على وجه التّحديد، منذُ زمن الامام عليّ (ع) فلا تجد متحدّثاً يمنحهُ الآخرون الوقت الكافي لإكمال فكرتهِ ابداً، فبينَ كلمةٍ وأُخرى يقاطعهُ احد المتلقّين، لدرجة انّ المجلس يتحوّل أحياناً الى ما يشبّبهُ العراقيّون بـ(حمّام النّساء) كلّهم يتحدّثون ولا احدَ منهم يُصغي لأحد!.
ولهذا السّبب؛
أولاً؛ تتشتّت الأفكار في جلساتِنا واجتماعاتِنا، فهي عادةً ما تلتئم لمناقشة موضوعٍ الا انّها تنتهي وقد ناقش المجتمعون عشَرة مواضيعَ أُخرى ليس من بينها الموضوع الذي اجتمعوا من أجلهِ.
ثانياً؛ تضييع الأفكار والآراء والرّؤى والأخبار التي يُرِيدُ المتحدّثُ عرضها في الجلسة، لانّ كثرة المقاطعات التي يتعرّض لها تشغلهُ عن التّركيز وتسبّب لهُ شروداً ذهنيّاً.
ثالثاً؛ اما المتلقّي فهو الآخر سوف لا يركّز في تفكيرهِ ولا يفهم شيئاً من الحديث لانّه مشغولٌ بتحضيرِ المادّة المناسبة لمقاطعة المتحدّث فيها وليس لاستيعابِ الفكرةِ المطروحةِ.
رابعاً؛ ولِكُلِّ هذه الاسباب فانّ جلّ جلساتنا واجتماعاتنا عبثيّة قليلة الفائدة لا تُنتج شيئاً مفيداً ففي لحظةٍ من اللّحظات، كما أشرت، ينتبه الجميع الى انّهم جميعاً يتحدّثون وكلّهم يُقاطعون بعضهمُ البعض الآخر، فتكون المحصّلة صفر.
خامساً؛ ان مقاطعة المتحدّث والاستعجال في الردّ يخسر بسببهِ المتلقّي الكثير، فربّما أراد المتحدّثُ ان يقولَ شيئاً ينفعهُ؟ او أراد ان ينقلَ خبراً خاصّاً ينفعهُ في بناء رؤيةٍ مثلاً، ولذلك ينبغي ترك المتحدّث حتى يكمّل حديثهُ، ولقد قال أَمير المؤمنين (ع) {مِنَ الْخُرْقِ الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الاِْمْكَانِ، وَالاَْناةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ} وهذا ينطبق، برأيي على الحديث والحوار كما ينطبق على الفعل والعمل.
سادساً؛ العاقل أَحرص ما يكون على الاصغاءِ مِنْهُ على الكلام، وهو أَحرص ما يكون على التّفكير بما يسمعهُ منه على الاستعداد للردّ مستنفِراً كل قواه حتى السّبعيَّةِ منها في أَغلب الأحيان، خاصّة نحن العراقييّن، ولذلك تنتهي جلساتنا واجتماعاتنا في أَحيان كثيرةٍ الى ما يشبه حلبة المصارعة الحرّة او الملاكمة، نستخدمُ فيها الصّراخ والعويل وربما الايدي والارجل وقناني الماء الفارغة منها والمملوءة او ايّ شَيْءٍ آخر يقع بأَيدينا لحظتها، فردة حذاء مثلاً او مطفأة سجائر، وأقلها السّباب والشّتائم والتّشكيك بالنوّايا والطّعن بالخلفيّات وربما التّكفير والتّهمة وغير ذلك!.
حتّى أسئلتنا غير طبيعيّة، استفزازيّة لاثارة الآخر وكيديّة لتوريطهِ، هي ليست لكسبِ المعرفة وانّما لإثبات الشّخصية ولذلك نصح الامام (ع) سائلاً بقولهِ {سَل تَفَقُّهاً وَلاَ تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ}.
سابعاً؛ انّ الصّمتَ للتّفكير بكلامِ الآخر يمنحكَ الفرصة على التعلّم من جانبٍ، وعلى لملمة افكاركَ من أَجل حوارٍ أَفضل من جانبٍ آخر، ولذلك مدحَ أَمير المؤمنين (ع) أخاً لهُ بقولهِ {وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ، وَكَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً! فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثُ غَاب وَصِلُّ وَاد لاَ يُدْلِي بِحُجَّة حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً}.
انّ الاستعجال، كذلك، يُثيرُ الضّغائن والاحقاد والخلافات والعداوات، كما انّهُ يضيّع حتى الجواب في زحمة التّقاطعات، وصدقَ أمير المؤمنين (ع) الذي قال {إِذَا ازْدَحَمَ الْجَوَابُ خَفِيَ الصَّوَابُ} وهو حالنا.
ولقد كانت هذه حالتنا المرضيّة عندما نلتقي او نجتمع، امّا اليوم فإنّها انتقلت الى وسائل التّواصل الاجتماعي بشكلٍ مُخيف، فلم تجد مجموعة تواصليّة، وهي عبارة عن اجتماعات ولقاءات افتراضيّة متواصلة ليلاً ونهاراً، الا وقد اختلط فيها الحابِل بالنّابل، في اللحظة الواحدة الكلّ يكتبُ رأيهُ وينشر خبرهُ ولكن لا أَحدَ ينتبه الى ما يكتبهُ الاخرون، الا ما ندَر، كلّ المجموعة تتحدّث ولكن من دون ربطٍ بين الكلام، قد يكون الموضوع موردُ النّقاش مثلاً واحداً وواضحاً، الا ان إدلاء الجميع بآرائهم قبل الانتباه او حتّى قراءة ما يقولهُ الاخرون يُنهي الحديث بلا نتيجة، او انّهُ يُصغي ليستحضر الردّ لا ليهضم الكلام اذا كان فيه فكرةً او معلومةً.
كأنَّنا نتحدّث مع انفسِنا!.
ومن الطّرق الشّائعة لمقاطعةِ الآخر القول [شكرًا! لقد وصلت الفكرة!] وانا أَجزمُ انّها لم ولن تصل، ولذلك نحن الآن في خضمّ كمٍّ هائل من نصف أفكار ونصف آراء لم يجمعها أَحدٌ لتولد الفكرة الكاملة السّليمة.
ولشدّ ما أَستغربُ من البعضِ كيف انّهم يقدِرون على المشاركة في المجموعات ليلَ نهارٍ وكأَنهم بِلا عملٍ، او كَأَنَّ ذلك شُغلهمُ الشّاغل، يُناقشون الجميع ويُقاطعون الجميع بلا كَللٍ أَو مَللٍ، فمتى يقرأون؟ ومتى يتعلّمون؟ ومتى يُطالعون؟ ومتى يسمعون؟! لا أَدري فقد يعتبرونَ ذلك ذكاءً او شطارةً، رُبما، ناسين أَو مُتناسين قول أمير المؤمنين (ع) {الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً [وَجَلَبَتْ نِقْمَةً]} وقوله (ع) {لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ سبحانه قد فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
وما اروعَ قولهُ (ع) في صفةِ المؤمن {كَثِيرٌ صَمْتُهُ} و {مغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ}.
اضف تعليق