في الحديث عن مكانة المرأة في المجتمع وحتى في الدولة بشكل عام، يثور الخلاف دائماً بين فريقين حول آلية حصول المرأة على هذه المكانة وسط حضور ذكوري متسيّد في معظم مجالات الحياة، فالبعض يتصور أن مكانة المرأة (الأنثى) تتجسد في تميّزها بأشكال وعناوين مختلفة، وفي إطار الذات، ولا علاقة بالنتائج وما يمكن ان يؤول اليه هذا الحضور المتميّز، على المرأة المتميزة نفسها، وعلى الأسرة والمجتمع. بينما الفريق الآخر يعرب عن خشيته من احتمال تحول هذا التميّز على "تبرّج" ثم تجاوز القيم الانسانية والاخلاقية المحببة لدى الانسان، وربما بشكل غير إرادي.
بالنسبة لمفهوم التميّز، فانه يبدو مطلباً غريزياً يتفرع من حب البقاء والتفوق، ولذا فهو مشروع من حيث المبدأ، وقد أكد هذه الحقيقة، القرآن الكريم في حديثه عن قضيتين أساس في حياة الانسان؛ أحدهما الجهاد والاخرى، العلم. {فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً}، وعن العلم: {وهل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون}. وهذا حثّ واضح على التميّز والتفوق في أمور حضارية كبرى، وليس للرجال فقط – كما هو واضح- إنما للجميع؛ رجالاً ونساء.
وبسبب ضبابية الرؤية التي ضربت الكثير من أهل الفكر والثقافة في الساحة الاسلامية، غابت الآفاق الحضارية لمفهوم التميّز للمرأة كما الرجل ايضاً. فأضحى المفهوم محصوراً في قفص ذهبي تدور فيه المرأة باختصاصها العلمي، اذا كانت اكاديمية، وبمنصبها في الدولة، اذا كانت ضمن كيان سياسي، او حتى إن حصلت على وظيفة معينة او فرصة عمل، فنرى الاندفاع شديداً والتنافس محموم على التميّز والظهور لتحقيق غايات عدّة.
في هذا الطريق تعلو بعض الاصوات – او ربما الاصوات كلها- بأن هذا التميّز الذي لا يناقش فيه الكثير في المجتمع في الوقت الحاضر، يواجه عقبة كأداء دونها النجاح والتفوق، وهي "الحجاب" وما يلحق به من مفردات الستر والتعفف عن الانطلاق في التعامل مع الرجال خارج البيت، كما لو كانوا من المحارم من أخوة او أخوال او أعمام. فاذا التزمت المرأة والفتاة بالاحكام والمعايير الخاصة بالتعامل مع غير المحرم، فان تلك الاصوات تتسائل عن كيفية نجاح المرأة في تحقيق التميّز – والحال هكذا- في عالم سريع التحول والتطور في مجالات عدّة؟
في سيرة الصديقة الزهراء، عليها السلام، لا نجد فقط الاجابة على هذا السؤال، إنما ندرك معنى التميّز الحقيقي الذي يجب ان يكون عليه كل انسان ذو طموح في الحياة، فقد كانت في ظروف بامكانها خلق تميّز من نوع خارق، وربما تتمنى أي امرأة لو يكون لها جزءاً يسيراً من تلك المكانة التي كانت عليها، عليه السلام، فهي ابنة نبي خاتم، وهو أشرف الانبياء والمرسلين، وفيما بعد اصبحت زوجة لأول القوم إسلاماً وأقدمهم إيماناً، وصاحب ذو الفقار ومجندل الابطال. يكفي أن نذكّر أنها في حياتها ملكت أرضاً زراعية، ربما لم تحظ بها أي امرأة في ذلك الزمان، وهي أرض فدك، وما كانت تحمله من موارد مالية زاخرة. مع ذلك فان المكانة الاجتماعية والدخل المالي وغيره، لم يكن في قاموس التميّز الفاطمي، إنما تميزت الزهراء، عليها السلام بأمور يجدر بنا تسليط الضوء عليها ونحن نمر في أيام ذكرى مولدها الميمون:
* إنسانياً
ولكن كيف...، هل بإعطاء الفقير مقداراً من الاموال؟ او مواساة المصابين بأمراض خطيرة؟ أو إغاثة المنكوبين؟ او تكفّل الايتام وغيرها...؟ نعم؛ كل ذلك من موارد التميّز في المبادرات الانسانية الحميدة التي نلاحظ التسابق عليها من مشاهير الرياضة والسينما وحتى الطرب، بيد أن قانون التميّز الذي يحدثنا عنه القرآن الكريم هو؛ الانفاق مما يحبه الانسان، لا من الفائض عن حاجته وعن أرصدته الضخمة في البنوك. والآية الكريمة صريحة في هذه المعنى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وهذا ما جعل الزهراء، عليها السلام، تقدم ثوبها الخاص لليلة العرس الى امرأة فقيرة، وكذلك الحال بالنسبة لحادثة العطاء للفقير واليتيم والأسير، وبقاء أهل البيت، عليهم السلام، ثلاثة ايام دون طعام، يفطرون على الماء القراح. فعندنا "كرمٌ" وهو محبب، بيد أن هنالك "الجود" أعظم وأكبر من الكرم، لانه تعبير عن عمق عطاء وسخاء الانسان.
* اجتماعياً
في زحمة التسابق على التملّك والتقوقع لدى الكثير، فان يكون الانسان محباً للآخرين في كل الاحوال، فهذا أمر مميز حقاً، وهذه كانت مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، ومنهج المعلمة العظيمة، الصديقة الزهراء، عليها السلام، فقد اعطت للحسنين، عليهما السلام، ولهنا جميعاً، درساً بليغاً، ليس فقط في احترام الجار، وإنما لتفضيله عليهم، وهذه بحق تمثل مبادرة متميّزة ما بعدها تميّز في الجانب الاجتماعي.
فقد جاء عن الإمام الحسن، عليه السلام: "رأيت أمي فاطمة، عليها السلام، قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء. فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟، فقالت: يا بني، الجار ثم الدار".
* سياسياً
لمن يبحث عن التميّز في الساحة السياسية، نقول: إن موقف الصديقة الطاهرة من وجوه القوم بعد رحيل أبيها رسول الله ، صلى الله عليه وآله، كان مثالاً متكاملاً ليس للحضور السياسي للمرأة المتيزة، إنما للحضور الواعي والمسؤول عن مصير الامة، بما يفوق الهمّ السياسي وأمر الدولة.
فمما جاء في الخطبة الفدكية الصاعقة، تقويم للانحراف الفكري الذي ضرب أدمغة الكثير من المسلمين مما تسبب في اختلال الموازين والمعايير، فصعد من صعد، وأقصي من أقصي، بيد أن كلمات الصديقة الطاهرة، عليها السلام، بقيت تواكب الاجيال وهي تضيئ الطريق لمن يقصد الحق والحقيقة.
كل هذه المميزات تحققت للصديقة الطاهرة، وهي التجسيد الكامل للحجاب والمرأة الفاضلة والعفيفة. ولم يجرؤ أحد من الباحثين والمؤرخين على التفوه بما يخالف تلك الصفات في تناول حوادث تلك الفترة التاريخية الحرجة، لان الجميع يعلم هدف الزهراء، عليها السلام، من الخروج الى مسجد أبيها رسول الله، وإلقائها تلك الخطبة المدوية. فهي لم تكن مثل غيرها، ارادت من الخروج من بيتها لاهداف ذاتية وتلبية لرغبات ونوازع نفسية ضيقة.
من هنا نعرف حجم الفرص المتاحة أمام المرأة والفتاة في عالم اليوم، لأن تتميّز في جوانب كبيرة لها أبعاد انسانية واخلاقية عميقة تترك أثرها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل وفي جميع نواحي الحياة.
اضف تعليق