في سياق الحديث الطويل عن قدرات المرأة في التأثير على مجريات الأمور خارج البيت، من خلال اختصاصاتها العلمية، فان فكرة الاكتفاء الذاتي، تمثل حلقة الوصل بين كيان المرأة الأسري وبين شخصيتها العلمية والمهنية خارج الأسرة. فاذا تتميّز في عملها خارج البيت في مجالات مثل الطب والتعليم والإدارة، فان بامكانها التميّز داخل وخارج البيت بالتأثير على الواقع الاقتصادي العام، بدءاً من المجتمع الصغير (الأسرة)، ومروراً بالمجتمع الكبير، بل والأمة بأسرها.
المرأة؛ الأم والزوجة والأخت، مهما ضربت باجنحتها في آفاق العمل خارج المنزل، تبقى ظلالها الكثيفة وبصماتها على جهاز المطبخ – إن صحّ التعبير- والمفروشات والاجهزة الكهربائية، وسائر مستلزمات البيت، الى جانب الديكور والتجميل. وبات واضحاً أن كبرى الشركات المنتجة للسلع المنزلية، تتنافس في الاسواق العالمية على شخص المرأة صاحب الكلمة الاولى في البيت، وما تتخذه من قرارات حاسمة في اقتناء هذه الحاجة او تلك، واختيار الأجمل والأكفأ وغير ذلك. وفي الآونة الاخيرة دخلت الاطعمة الجاهزة في ساحة التنافس هذه، لاسباب لسنا بوارد الخوض فيها، ولم نظفر باحصائيات دقيقة عن حجم التجارة العالمية في مجال السلع المنزلية، بيد أننا نشير من باب المثال فقط، الى أن الدول الخليجية الست تعتمد بنسبة 90بالمئة من موادها الغذائية على المتسورد من الخارج، وحسب بعض الاحصائيات فانها في عام 2020 سيكون حجم وارداتها من المواد الغذائية حوالي 53 مليار دولار!
وإذن؛ يمكننا القول أن المرأة قادرة على التأثير – إن ارادت- على إنجاح أكبر خطوة تنموية، وهي؛ الاكتفاء الذاتي عندما ترفع يدها عن كثير مما يُعد لدى البعض انه من المستلزمات البيتية، ثم التوجه نحو الابداع في الانتاج لتقليص الحاجة الى المستورد، لاسيما ما يتعلق بالمواد الغذائية والمبلوسات.
المغزل، أيقونة الاكتفاء الذاتي
عندما نتحدث عن طريقة حياة الماضين من السلف الصالح، وفي طليعتهم المعصومين، عليهم السلام، مثل الرحى في يد الصديقة الزهراء، عليها السلام، لصنع الدقيق، أو التزام امير المؤمنين، عليه السلام، بتناول الخبز اليابس مع الملح، وغير ذلك كثير، ليس بمعنى أن يلتزم المسلمون جميعاً بهكذا طريقة عيش، والقرآن الكريم يصرّح داعياً إيانا بأن {كلوا من طيبات ما رزقناكم...}، بيد أن العبرة في اكتساب المصاديق الحقيقية للزهد والقناعة والشكر وغيرها من المفاهيم والقيم الباعثة على السعادة في الحياة.
كذلك الحال بالنسبة لأداة المغزل، فهي الآلة التي كان يستخدمها العرب قبل وبعد الاسلام، لاستخلاص الخيوط من صوف الغنم، ومن ثم نسجه وصناعة اشياء مختلفة تدخل في مجالات عدّة بحياة الانسان. ولذا جاء في الحديث الشريف بالتوصية على تعليم البنين، السباحة والرماية ركوب الخيل (القيادة)، أما البنات فجاءت التوصية بتعليمهن "الغَزِل". فاذا لم يكن في تلك الايام سوى صوف الغنم ليكون المادة الأولية لعمل المرأة في البيت، فان اليوم هنالك مواد أولية عديدة ومبذولة بوفرة بامكانها ان تكون فرص للانتاج والابداع.
إن في حياة الصديقة الزهراء، عليها السلام، رسائل عديدة لنا جميعاً وبالتحديد للنساء، بأن يستفيدوا من الفرص المتاحة للاكتفاء الذاتي بما يحقق العزة والكرامة الى جانب الفوائد المادية وحتى الصحية على البدن.
تكفي الاشارة الى أن هذا المغزل البسيط والأداة البدائية للعمل، كان له دور أساس في تكوين حادثة إطعام أهل البيت، عليهم السلام، المسكين واليتيم والأسير، ونزول سورة كاملة في القرآن الكريم بحقهم، وهي سورة "الانسان"، فالقضية بدأت في محاولة الامام علي والصديقة الزهراء توفير طعام لإفطارهم من صيام نذوره لشفاء الحسنين، عليهم السلام. وفي مؤلفه الرائع؛ "فاطمة الزهراء في القرآن" ينقل سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي – دام ظله- الرواية بتفاصيلها ونقتطف جزءاً يفيد المقال والمقام، فبعد أن عزم أهل البيت على الصيام ثلاثة أيام شكراً لله على العافية، "انطلق عليٌّ، عليه السلام، إلى جار له من اليهود يقال له: شمعون، يُعالج الصوف، فقال: هل لك أن تعطيني جزّة من صوف تغزلها لك ابنة محمّد، صلى الله عليه وآله، بثلاثة أصوع من شعير؟ قال: نعم، فأعطاه، فجاء بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة، عليها السلام، فقبلت وأطاعت. ثمّ عمدت، فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمس أقراص، لكلّ واحد قرصاً..." الى آخر الحكاية.
ولنا أن نسأل؟ ما الذي يدفع ابنة نبي، هو أشرف الانبياء والمرسلين والنبي الخاتم، أن تغزل الصوف بيدها من أجل الحصول على طعام الافطار؟ ألم تكن ثمة خيارات أخرى أقل كلفة؟
ربما تكون هنالك أجوبة عديدة، بيد أننا نسلط الضوء على أهمها وهو الاكتفاء الذاتي حتى بلقمة الطعام التي تقدم للزوج والاطفال، فهذه لها قيمة عظيمة في النفوس وتشدّ الاواصر وتبعث الدفء والحنان بين افراد العائلة، فتهيج مشاعر الحب والثناء ثم الشكر والعرفان.
ولا اجدني بحاجة الى ذكر الفوائد المادية لهكذا منهج في أي أسرة، وما سيوفره من نقود وتقليص في قيمة المصروفات البيتية، ويفتح حساب التوفير لمزيد من ضمان السعادة والرخاء، وربما في مرحلة متقدمة، مد يد العطاء والمساعدة للآخرين.
"لا وقت لذلك..." هل يكون مبرراً؟!
بالتأكيد تتذرع الكثير من النسوة – كما هو حال الرجال ايضاً- من أن يكون الانسان صانعاً كل شيء بيده، يعد ضرباً من المثالية والطموح المجنح، مهما كانت الحاجة الى ذلك شديدة وحياتية، بيد أن الجميع لا يجهل عدد الساعات التي تقتل على أعتاب التلفاز وقبالة أجهزة الهاتف النقال، بما يجود من مواقع تواصل وتطبيقات و.... غيرها. مما يؤكد وجود حالة غير مقصودة باستسهال الخسارة المادية والانفاق المستمر دون تحقيق الغايات التي يجري خلفها الجميع، وهي الرخاء والسعادة وراحة البال. فالقلق إزاء كل شيء، والجري المستمر في دوامة العمل هنا وهناك لمزيد من الكسب المادي. وفي نهاية المطاف يكون البيت، عبارة عن محرقة لكل تلك المكاسب والجهود المضنية، بدلاً من ان يكون البيت هو منطلق العمل والانتاج ومصدراً للسعادة. وهذا تحديداً ما كان عليه بيت الصديقة الزهراء، عليها السلام. وهذا مشهد آخر من حياتها اليومية وكيف أنها كانت تكافح من اجل تحقيق الراحة المعنوية قبل المادية...
يزورها ذات مرة الصحابي الجليل سلمان المحمدي فيجد أنها مشغولة بإدارة الرحى لصنع الدقيق، فيما الحسنان يبكيان... فقال: - مضمون الرواية- يا بنت رسول الله...! إما أن أهدأ الاطفال أو أدور الرحى...؟ فاختارت أمر الحسنين،عليهما السلام، فيما تولّى سلمان طحن الشعير.
وهكذا كانت الصديقة الطاهرة، ترعى أطفالها الصغار، وتدير رحى، وهي عبارة عن صخرة كبيرة لصنع الدقيق، كما تقوم بتنظيف البيت وإعداد الطعام، وغير ذلك، الى جانب الوقت الطويل الذي تخصصه، عليها السلام، للتهجّد والتعبّد في محاربها، وفي ذلك روايات مفصّلة.
كلمة أخيرة:
نلاحظ كثيراً لجوء بعض النسوة الى العمل داخل البيت، مثل انتاج بعض الاطعمة، او الخياطة وغير ذلك، في محاولة موفقة منهنّ لتجاوز الازمة المالية والاستغناء عن الآخرين، فهذا ما يتعلق بدخل الأسرة وحدود البيت الصغير، ونرى النجاح الباهر الذي تحققه الكثير من النسوة الفاضلات في هذا المجال، وهذا يعني أنهنّ قادرات، عندما تجتمع الأيدي وتتضافر الجهود، على الإسهام في تحقيق الاكتفاء الذاتي لبلد بكامله، عندما يستغني عن تخصيص ملايين الدولارات لشراء المواد الغذائية والمستلزمات البيتية من الخارج. وربما تعود هذه الملايين وحتى المليارات الى هذه النسوة والشعب بأكلمه ليزيد من نموه وتطوره وتقدمه. فهل نحن فاعلون...؟.
اضف تعليق