في الوقت الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القائد العام للأمة أو ما يعرف سياسياً اليوم بـ "الرئيس"، بعد قد حقق انتصاراتٍ منقطعة النظير في فترة وجيزة، وأقام دولة كبرى، ونظاما اقتصاديا، وحقق عدالة اجتماعية انفرد بها كقائد، بالرغم من كل ذلك، كان يعيش وأسرته، المكونة من علي وفاطمة وأولادهما وزوجاته في غاية البساطة والتواضع، ولن نغالي إن قلنا أنه رغم كل ذلك، كان يعيش "فقيراً" بعكس ما هو متعارف اليوم عن الرؤساء والقادة وحتى الساسة "الصغار" الجدد.
لم تنقل لنا كتب التاريخ الموثقة، أنه وأسرته كانوا يعيشون "الترف" أو أنهم حرصوا على ادّخار الأموال أو أسسوا تجارة تدر عليهم الأرباح لتكوين ثروة مادية، بل كانوا يؤثرون الآخرين على أنفسهم، وكان جل اهتمامهم نشر العلم، وقيم الفضيلة، وتبليغ رسالة السماء التي تحملوا مسؤوليتها بكل ما يملكون من ضمير حي، وإخلاص في العمل الإسلامي.
وفاطمة الزهراء عليها السلام، هي ذلك الغرس الطيب المبارك الذي أثمر كوثراً مباركاً لا ينقطع، كانت النموذج المثالي للمرأة الطاهرة النقية الزاهدة العابدة، وفوق كل هذا كانت إمرأة مسؤولة، تعي ما تفعل، رغم أنها كانت ابنه الرئيس!!
الابنة الوحيدة، للنبي الذي كان حاكما وقائداً للأمة.. الحاكم الذي لم يطرح نفسه كإمبراطور عسكري مع ما حقق من مكاسب عسكرية وسياسية، عاشت كأبسط امرأة شابة مع زوجها "الوزير" و"الوصي" وأولادها في تلك الإمبراطورية العادلة.
يحدثنا عنها زوجها علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي شاطرها هو الآخر تلك البساطة، يقول علي: "إنَّ فاطمة استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها، وطحنت بالرحى حتى نحلت يداها، وكسحت البيت حتى أغبرت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها".
ابنة الرئيس تعجن وتخبز!
داخل بيتها، كانت فاطمة تؤدي بكل نشاط عمل البيت والعجين والخبز و قمّ البيت - أي كنسه - دون كللٍ أو ملل، ولم تكن تشعر زوجها أو أولادها بأي منّة أو تذمر، ورغم كل ما تبذله من جهد أمام صعوبة الحياة في تلك الفترة؛ لم يعرف التعب إليها طريقاً.. هكذا كانت فاطمة، كتلة من النشاط والحركة والسعي الدؤوب.
إزاء ذلك، كان علياً عليه السلام، قد ضمن لها ما "خلف الباب" كما تذكر الروايات الشريفة، التي ربما تشير إلى أن فاطمة كانت حريصة أشد الحرص على أن يكون جل اهتمامها بيتها وأولادها، الاهتمام الذي طالما حث عليه القرآن الكريم، وأحاديث النبي، كانت حريصة دوماً عن أن تكون الزوجة الصالحة المطيعة، والأم الحانية على أولادها.
حفيدها الإمام الباقر عليه السلام، يكشف لنا شيئاً مما كان يدور في ذلك البيت العلوي، يحدثنا قائلاً: "إن فاطمة عليه السلام ضمنت لعلي عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت وضمن لها علي (ع) ما كان خلف الباب: نقل الحطب وأن يجيء بالطعام".
ذات يوم سأل علي فاطمة عليهما السلام: "هل عندك شيء"؟
تجيب فاطمة عليها السلام: "والذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به".
وبلهجة عتاب الرجل المسؤول تجاه تأمين قوت عياله، يقول لها: "أفلا أخبرتني"؟
لكنها أخبرته أن أباها "رسول الله" نهاها عن تسأله شيئاً.
كانت تعرف جيداً، أن وجودها في هذا البيت النوراني يحتم عليها أن تكون قدوة في الصبر والتجلد، بعكس ما يعتقده الكثير من النساء اليوم، من أن وجود المرأة مع رجل يتحمل أعباء مسؤولية دولة، أو يعمل في منصب حساس، لا بد أن يكون مستعداً لتوفير كل ما تطلبه منه زوجته، أو سائر أفراد أسرته.
غير أن محور اهتمام أسره النبي، ومنها علي وفاطمة، كان "رسالة الإسلام" وهداية الأمة من الضلال، وإنقاذهم من الشرك، لا تحقيق المكاسب أو الاهتمام بالمصالح الشخصية.
"الوزير يستقرض ديناراً"!!
بعد أن سمع علي عليه السلام كلام زوجته فاطمة عليها السلام، خرج ليستقرض "ديناراً" عسى أن يصيب به شيئاً من الطعام إلى أسرته الجائعة، وبعد أن حصل عليه، لقي في طريقه المقداد بن الأسود -أحد الصحابة المقربين- فبادره علي عليه السلام بالسؤال عن السبب الذي أخرجه في هذه الساعة، فقال المقداد: "الجوع والذي عظّم حقك يا أمير المؤمنين".
فما كان من علي عليه السلام، إلا أن يؤثر المقداد على أسرته ودفع له الدينار الذي كان قد استقرضه للتو، ثم عاد إلى بيته ليجد رسول الله جالساً، بينما كانت فاطمة عليها السلام تصلي وبينهما شيء مغطى.
تذكر الرواية، أن فاطمة عليها السلام كشفت ذلك الشيء، فإذا به جفنة -وعاء- من الخبز واللحم، فسألها علي عليه السلام عن مصدره، فقالت: " هو من عند اللـه إن اللـه يرزق من يشاء بغير حساب".
من جملة فضائلها عليها السلام، أنها كانت في شديدة التوكل على الله، وعلى كامل الثقة واليقين به، ففي يوم من الأيام، كان الحسن والحسين قد طلبا من إمهما فاطمة أن تخيط لهما ثياباً للعيد، وكانت فاطمة عليها السلام قد وعدتهما بذلك، وأكدت لهما أنه سيكون لهما ثياباً جديدة في العيد، وقالت: "لكما إن شاء الله".
تقول الرواية، "فلما أن جاء العيد جاء جبرائيل بقميصين من حلل الجنّة إلى رسول اللـه (ص)، فقال له رسول اللـه (ص): ما هذا يا أخي جبرائيل؟ فأخبره بقول الحسن والحسين لفاطمة وبقول فاطمة يخاط لكما إن شاء، ثمَّ قال جبرائيل: قال اللـه تعالى لما سمع قولها: لا نستحسن أن نكذِّب فاطمة بقولها، يخاط لكما إن شاء الله".
ختاماً، في أيام العزاء الفاطمي، ينبغي أن نستذكر إلى جانب الظلم الذي تعرضت له فاطمة عليها السلام، القيم التي ظلمت لأجلها، ومن قبلها رسول الله.. يجب أن نعلم جميعاً أن فاطمة دفعت ثمن بساطتها وتواضعها وتمسكها بالعدل ونصرة المظلوم دماً لكي نحيي نحن أتباعها تلك القيم بثوب العزاء.
اضف تعليق