q

عندما نقول أن الامام الحسين، عليه السلام، انتصر يوم عاشوراء أمام جيش عمر ابن سعد، فإنما نؤكد انتصار القيم والمبادئ الحقّة التي جسدها، كما ان الاصحاب انتصروا لتلك المبادئ والقيم وأبقوها حيّة مشعّة، فبقوا معها من الخالدين. كذلك الحال بالنسبة للإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، فهو توقف عند حافة الحرب، ورفض القتال، فكانت النتيجة ان يكسب خصمه المعركة السياسية، ويحقق رغبته الدفينة بالملك والحكم، بيد أن الامام، عليه السلام، كسب المعركة الحضارية، فحافظ على نفس تلك القيم والمبادئ والسيف في غمده، ولم يهدر قطرة دم واحدة.

ولكن...! ما ذا عن الاصحاب؟! وماذا عن الأمة التي وسمت – ظلماً- الإمام الحسن، عليه السلام، بأنه "مهادن"؟!

من المفترض أن تكون الأمة في ذلك العهد، قد بلغت مستوى من الخير الذي ذكره القرآن الكريم "خير أمة"، فتشهد المنازلات والمعارك في جبهة الحق، وتشهد الانتصارات، كما حصل في عهد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، بيد إن الايمان، هو الاختبار الصعب الذي تسقط فيه الأمم عبر التاريخ، فيبقى الانبياء والأوصياء وحدهم في الساحة، ولا تكون الخسارة والهزيمة إلا لأفراد ذلك المجتمع المتخاذل والمتراجع.

وحتى يتحقق الامام الحسن، عليه السلام، من هذه الحقيقة، ويجعلها حجّة للتاريخ، اختبر افراد جيشه الذي تسلّمه من بعد أبيه أمير المؤمنين، عليه السلام، قبل أن يستأنف القتال ضد الفئة الباغية (معاوية)، فألقى خطبة بعد صلاة الجماعة، وأمامه الآلاف من الجند، ومما جاء في هذه الخطبة التي ينقلها الشيخ المفيد في "الإرشاد" أن "...ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليّ رأيي...".

ما ان سمع الناس هذه الكلمات من الإمام، حتى بدأ البعض ينظر في وجه الآخر – تقول الرواية- وقالوا: ما ترونه يريد بما قال...؟! فقال البعض: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر اليه! ثم صاح أحدهم: كفر والله الرجل...! ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته...

هذا الحادث الغريب، من جنود مع قائد جيشهم، يعبر عن سقوط كبير في اختبار بسيط، فالامام لم يطلب منهم إلا أمرين: وحدة الصف، والطاعة. وهذين الأمرين، أرادهما الإمام لأن يكونا اللبنة الاولى لبناء المجتمع الفاضل، ثم الجيش المقتدر والمنتصر، مع معرفته، عليه السلام، بوجود المشككين والخوارج وعبّاد المال والجاه في عسكره، فهم الذين مهدوا الطريق لوصول ابن ملجم الى الإمام ويرتكب تلك الجريمة، ليتوقف الجيش الاسلامي أمام جبهة البغي، بيد أن هذه كانت فرصة جديدة أمام الامة للتعويض عما فات.

هنالك عوامل عديدة يذكرها المؤرخون والباحثون عن تلك المرحلة التاريخية الفاصلة، أدّت الى تخاذل المسلمين في عهد الامامين، علي والحسن، عليهم السلام، مثل وجود العصبيات الجاهلية وحب المال والجاه، ثم الرؤية السطحية والقشرية للدين، الى جانب اساليب التضليل والتغرير التي اتبعها معاوية، بيد أن النتيجة واحدة وكارثية على الأمة، وهي تمكين فئة ضالة من الطلقاء، ولم يكونوا حتى من المسلمين العاديين، ليتحكمّوا بمصير الأمة، فكانت الهدر الفظيع في الثروات، والسفك الفجيع في الدماء.

هذا الاختبار، لم يكن الاول من نوعه في التاريخ، وربما لو قرأ المسلمون بعناية، تجارب الأمم التي خلت من قبلهم، لكان الموقف بشكل آخر، وهذا القرآن الكريم، أمامهم، لكن المشكلة دائماً أن "أكثرهم لا يعقلون". ففي (سورة البقرة)، يروي لنا القرآن قصة بني اسرائيل مع الملك "طالوت" الذي اختاره الله لهم ليقاتلوا طاغية ذلك الزمان (جالوت)، فجاء وقت الاختبار في شرب الماء بغرفة واحدة باليد، ومن يشرب أكثر يكون من العاصين، فكان العصيان من الاكثرية، لكن بقيت أقليّة فاعلة، فاطلقت الهتاف المدويّ: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة والله مع الصابرين}. ويروي القرآن الكريم، كيف أن هذه القلّة، انتصرت على جيش جرار.

وهذا الدرس والعبِرة، لم يتوقف عند المسلمين في عهد الامام الحسن، فهو مستمر حتى يومنا هذا، وسيوافي الاجيال القادمة الى يوم القيامة، لأن القضية تتعلق بمعادلة إلهية، بأن الحق والفضيلة والقيم والمبادئ لا تنتصر إلا بعد أن ينتصر لها المؤمنون. وإلا ما الذي جعل الاستهتار بالقيم والمبادئ والاحكام في عهد يزيد، يصل الى منحدرات خطيرة، سوى سكوت الناس عن الظلم والانحراف وعدم الاعتصام بحبل أهل البيت، عليهم السلام، لمواجهة هذا الانحراف؟ فمعاوية ويزيد وغيرهما من الطغاة، لم ينتصروا سياسياً وعسكرياً، إلا بعد الهزيمة النفسية والمعنوية لابناء الامة.

من هنا نعرف أن الايمان الحقيقي، مفتاح النصر ليس في جبهات الحرب ضد الباطل، إنما في الجبهة الداخلية ايضاً، فان القيم والمبادئ الحيّة في النفوس، هي التي تصنع المقاتلين الابطال والفدائيين الذين يتحدون اكبر المخاطر والتهديدات، كما نلاحظ ذلك في التجربة العراقية، التي بحق، أبهرت المسلمين والعالم بأسره، وكلما اتسعت مساحة هذا الايمان وتعمّق في النفوس، كانت النتيجة أكبر.

اضف تعليق