الإيمان العملي ذو المصداقية على ارض الواقع هو الذي يصنع الأمل الحقيقي بالخلاص والتغيير، وإلا نحن نكرر ما تتحدث به الديانات في العالم عن وجود المنقذ والمخلص آخر الزمان، بيد أن الإيمان بوجود هذا المخلّص حيّاً بيننا، يتواجد في كل مكان من العالم، يتابع ويراقب تحركاتنا وأعمالنا، وحتى خواطرنا، هو المائز بيننا وبين الآخرين...

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ}

طيلة مئتي عام والشيعة ينتظرون المخلّص بفارغ الصبر وخالص الأمل بالله –تعالى- وتصديقاً بوعد رسوله الكريم بأن "لو لم يبق من الدهر إلا يوماً لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلئت جورا"، وربما معظم الثورات والانتفاضات الجماهيرية ضد الظلم والطغيان في تلكم السنوات كانت تحمل معها هذا الأمل في جذوتها المتقدة، وفي دوافعها للتغيير والإصلاح، وطالما كان الموالون المقربون من الأئمة الاطهار يسألون عن "متى يظهر قائمكم"؟! مما ينبئ عن مرارة العيش وقساوة الظروف في ظل حكام دمويون عاثوا في الأرض فسادا؛ من أمويين وعباسيين.

وفي يوم الجمعة من شهر شعبان سنة 255للهجرة استبشر شيعة أمير المؤمنين بمولد الإمام الثاني عشر، وإن كان نبأ الولادة محدود التداول ضمن إجراءات أمنية خاصة اتخذها الامام الحسن العسكري، بيد أن الإمام الحجة المنتظر ظهر أمام الجمهور في نهاية المطاف، وصلى على جنازة أبيه وهو ابن خمسة سنين، وخلفه جمهور الشيعة. ولكن!

هل تحقق الأمل بوجود الإمام المهدي للخلاص والنجاة من كل ما تعانيه الأمة في تلك الفترة تحديداً، من جور، وظلم، وانتهاك للحرمات والكرامة الإنسانية؟ فلم يعد "للعصر الذهبي" وجوداً في ظل هيمنة العسكر على مقدرات الدولة الإسلامية، وانتفاء الحالة المدنية والحضارية، فكان الهمّ الأكبر لدى البلاط العباسي؛ جمع المال، وتطوير القوة العسكرية دون القوة الاقتصادية، مع إمعان في إذلال الناس واستعبادهم، مما تسبب بظهور حالة التمزق في الدولة الكبرى الى دويلات، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي. 

لم تمض فترة طويلة على وجود الإمام بين أوساط الأمة والشيعة تحديداً، حتى بدأت حالة الغيبة عنهم اتقاءً لشرّ العباسيين المتخوفين من أن تكون نهايتهم على يديه كما قرأوا وحفظوا من الروايات، وأنه المخلّص والمنقذ، فاستعاض الامام، عجل الله فرجه، بالسفراء، وكانوا أربعة فقط ليكونوا حلقة الوصل بينه وبين الأمة، فأين الأمل بالانقاذ والخلاص في ظل استمرار حالة الخوف والقلق؟!

كيف نصنع الأمل؟

بما أنه يناقض اليأس فهو حالة إيجابية قابلة للتنمية في النفس كلما كانت الحاجة اليها، يبقى أن نعرف اتجاه هذا الأمل، فالخلاص والنجاة مطلب عام يفكر به كل انسان في الحياة، إنما المهم تحديد الخلاص من أي شيء؟ ومن ثم تحديد الخطوة الأخرى التي نضعها بعد الخلاص، وهذا مطلب محوري في مشروع التغيير، وإلا فقد شهدنا آمال كبيرة علقتها شعوب وأمم على مشاريع تغيير كبرى، فكانت النتيجة انهيار هذه الآمال بسبب سوء التدبير والتخطيط، وايضاً؛ تغليب الطموحات السياسية على القيم والمبادئ. 

ومنها؛ ثورة الزنج في البصرة في عهد الامام الحسن العسكري التي تزامنت مع مولد الإمام المهدي المنتظر سنة 255، ولم تتمكن الدولة العباسية من إخمادها قبل حوالي خمسة عشر سنة كادت ان تتحول الى دولة جديدة داخل الدولة العباسية بفضل تعكزها على القوة العسكرية، ودوافع الحماس في نفوس الثوار المنحدرين من أصول افريقية عبأتهم مشاعر الغضب من السياسات العنصرية والتعسفية للسلطات العباسية، فكانت الفرصة أمام شخص ادّعى أنه سليل الأسرة العلوية، وانه من أبناء زيد بن الامام زين العابدين، عليه السلام، لأن يقود هؤلاء المزارعين والعمّال المضطهدين، وقد اتسعت رقعة نفوذه لتشمل مناطق الاهواز والبحرين الى جانب البصرة ومناطق من واسط، هذه الثورة انطلقت من مشاعر المهانة والفقر أملاً في استحصال الكرامة الإنسانية، بيد أن القيادة كانت تتطلع الى أمور أخرى في مقدمتها الحكم.

والى جانب هذه الثورة تفجرت ثورات أخر في الكوفة ومصر وخراسان وغيرها من البلاد الإسلامية قادها طالبيون من أبناء الأئمة الاطهار رافعين الشعار الذائع الصيت: "يالثارات الحسين"، و"الرضا من آل محمد"، وفي معظمها –الشعارات- كانت لإضفاء المشروعية وكسب مساحة أوسع من القاعدة الجماهيرية، بيد أن الأمل الواحد كان يتحول الى آمال متعددة فضفاضة وغير دقيقة، فبين تحسين الوضع المعيشي، والإثراء أسوة بأبناء الطبقة الغنية، والوصول الى السلطة، الامر الذي أدى الى قصر عمر هذه الثورات والآمال ايضاً، أمام قوة عسكرية مدعومة بغطاء ديني –شرعي يمثل "الخلافة الإسلامية"، من بعد رسول الله، فأي حركة معارضة كانت توضع من قبل إعلام "الخلافة" ضمن دائرة التمرّد على الشرعية الدينية، والتسبب في تمزيق وتفرقة الامة، وهذه النقطة تحديداً كان الامام الحسن العسكري مدركاً لها، فكان يريد –وسائر الأئمة المعصومين- صنع الأمل الصادق والحقيقي في نفوس الأمة بالتغيير والإصلاح بما يصون جهادهم و تضحياتهم من الضياع. 

معالجة الشك والارتياب قبل كل شيء

كيف نجمع بين أملنا بشخصية ما، والتشكيك بقدرة هذه الشخصية على فعل شيء؟! 

روي عن أحمد بن إسحاق بن مصقلة قال: "دخلت على ابي محمد (العسكري)، عليه السلام، فقال لي: يا أحمد! ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشكّ والارتياب؟ قلت: لمّا ورد الكتاب بخبر مولد سيدنا (المهدي المنتظر) لم يبق منّا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق، فقال، عليه السلام: أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة لله تعالى"؟

يكفينا هذا التساؤل بوجود الأزمة المعرفية في صفوف الأمة آنذاك، وما تزال معاناتها حتى اليوم فيما يتعلق بوجود الإمام الحجة المنتظر حيّاً يُرزق بينهم، فالقضية ليست كلمات وروايات تُقرأ في الكتب، إنما الإيمان العملي ذو المصداقية على ارض الواقع هو الذي يصنع الأمل الحقيقي بالخلاص والتغيير، وإلا نحن نكرر ما تتحدث به الديانات في العالم عن وجود المنقذ والمخلص آخر الزمان، بيد أن الإيمان بوجود هذا المخلّص حيّاً بيننا، يتواجد في كل مكان من العالم، يتابع ويراقب تحركاتنا وأعمالنا، وحتى خواطرنا، هو المائز بيننا وبين الآخرين. 

ففي الوقت الحاضر نحن نحمل الأمل بظهور الأمام المهدي، وننتظر يومه الموعود بفارغ الصبر، وهذا أمرٌ جيد، بيد أن يحتاج الى مسارات يعطي هذا الأمل مصداقية، فنحن بحاجة الى الإيمان العميق والراسخ بوجود الإمام المهدي بيننا، ربما يصادف وجوده بيننا ونحن على معصية او موقف خاطئ او أعمال غير صحيحة تسبب له الأذى النفسي، كما نقرأ في الروايات، والمسار الآخر؛ معرفته، عجل الله فرجه، في شخصه الكريم، وفي منهجه، وتحديداً ما يريده منّا. 

العلماء والخطباء يقربون لنا فلسفة الانتظار الإيجابي بأنه يشبه صاحب الدار المنتظر لضيوف أعزاء عليه، فيعمل كل ما بوسعه لكسب رضاهم، وهؤلاء الضيوف القادمين لاشك يحملون أذواق وعادات معينة في طريقة الجلوس، وتناول الطعام، ومسائل أخرى تدعو المضيف الانتباه اليها ومراعاتها حتى تكون ضيافته على أحسن وجه، فهذا من مثل الضيافة خلال ساعات معدودة في مكان محدود، فما بالنا بضيف عظيم نأمل باستضافته على مساحة العالم كله، ماذا يريد؟ وكيف يتصرف؟ وما هو برنامج عمله حتى نرى تحقيق الأمل الكبير بأن "يملأ الأرض قسطاً وعدلا، كما مُلئت ظلما وجورا"؟

اضف تعليق