كانت مسيرة الامام زين العابدين الإصلاحية في أوساط الأمة بأدوات جديدة غير معهودة لدى الناس، ولا لدى الحكام من قبل، وهي البكاء والدعاء والتضرّع الى الله –تعالى- لتذكير الناس بشكل غير مباشر بمصدر الخطأ وبداية الانحراف بالابتعاد عن قيم السماء التي ضحى من أجلها رسول الله، ومعه أمير المؤمنين...
"كفى بنصر الله لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي الله فيك".
الإمام زين العابدين، عليه السلام/ كتاب: تحف العقول
عاد الى بيت أبيه في المدينة وحيداً بعد رحلة السبي الظالمة، وهو مثقل بالآلام النفسية قبل البدنية، وبالذكريات المرّة من واقعة الطف، فكيف أمضى الإمام السجاد أول ليلته بعد تلك الرحلة المريعة؟
إن كان توجه للانتقام بدعوى الثأر، وهو محقٌ وجدير بذلك، لتكرس الفهم الخاطئ لدى الناس آنذاك "بشخصانية" الصراع بين الامام الحسين ويزيد، و لصدقت مقولتهم التاريخية: "ما لنا والدخول بين السلاطين"، على أن الامام الحسين يطالب بتطبيق معاهدة الصلح الموقعة بين الامام الحسن ومعاوية بأن يكون هو الخليفة بعد موت معاوية، بينما حصل نقض العهد من الاخير بإعطاء زمام الحكم لابنه.
ثقافة القطيع التي يتحدثون عنها اليوم لها امتداد في التاريخ الاسلامي منذ تلك الأيام، باستغفال جماهير الأمة وتضليلها وتغريرها، وحتى تهديدها لتكون على الحياد، ثم ليصل نفرٌ من فلول الجاهلية الى الحكم بسهولة، واستعادة أمجاد الآباء المنهزمين أمام تيار الرسالة السماوية.
وحتى تلك اللحظة، وفي أول ليلة من عودة الامام الى مدينة جدّه مع عمته العقيلة زينب وسائر من بقي من أسرة أبيه الامام الحسين، و رغم نعي بشر بن حذلم؛ الامام الحسين وابنائه واصحابه على مشارف المدينة، لم يكن أهل المدينة، كما المسلمون في كل الامصار ليستوعبوا حجم المصيبة التي حلّت بهم وبالإسلام بشكل عام، حتى إن بعض الناس في الكوفة بعد أن سمعوا خطبة الإمام السجاد وتقريعه لهم، وكشفه لخديعة عبيد الله بن زياد لهم، هتفوا: "نحن كلّنا يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فأمرنا بأمرك يرحمك الله ، فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك ، لنأخذن يزيد ونبرأ ممّن ظلمك وظلمنا"، فنهرهم الإمام بشدة قائلاً: "هيهات هيهات ، أيّها الغَدرة المَكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل".
وهذا يعني أن فداحة المصاب في أرض كربلاء، وما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته من العطش وانتهاك الحرمات وقتل الرضيع ومخالفة وصية النبي الأكرم لأمته في عترته وأهل بيته، وتدافع الآلاف من الناس للمشاركة في قتل الإمام الحسين، ثم التسابق على السلب والنهب وحرق الخيام وترويع النساء ثم سبيهنّ، كل هذا لم يغيّر من مسار الامام السجاد قيد أنملة، فهو في طريق الإصلاح على خطى أبيه الشهيد الذي قدّر الله له أن تكون مهمته في هذا الطريق بالتضحية بنفسه، بينما مهمته هو ان يضحي بمشاعره وعواطفه، وهو ليس بالأمر الهيّن مطلقاً من ابن يرى رأس أبيه على رأس رمح طويل، وأجساد اخوته وابناء عمومته واصحابه وقد تحولت أشلاء مقطعة، الى جانب منظر عمته العقيلة، ابنة امير المؤمنين، وسائر نساء رسول الله، ونساء الاصحاب الشهداء على ظهور النياق بتلك الطريقة البشعة.
من هنا كانت مسيرة الامام زين العابدين الإصلاحية في أوساط الأمة بأدوات جديدة غير معهودة لدى الناس، ولا لدى الحكام من قبل، وهي البكاء والدعاء والتضرّع الى الله –تعالى- لتذكير الناس بشكل غير مباشر بمصدر الخطأ وبداية الانحراف بالابتعاد عن قيم السماء التي ضحى من أجلها رسول الله، ومعه أمير المؤمنين في بدايات تشكيل الدولة الاسلامية النقيّة، حيث كان التراحم والتعاون والايثار والتكافل، وسائر الفضائل والمكارم تسود حياة المجتمع الاسلامي الاول، ولو بنسبة معينة، وقد مدحهم القرآن الكريم في آيات عديدة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، و{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}، فكيف يعيد الامام هذه الثقافة الرسالية الى ربوع الأمة؟
زبور آل محمد
جاء في مقدمة الصحيفة السجادية عن قصة تناقل هذا السفر المعرفي العظيم بين يدي ابناء الامام السجاد، حتى وصل الى يحيى بن زيد الشهيد، والحوار الذي دار بين يحيى وأحد المقربين لأهل البيت، و اسمه: متوكل بن هارون، تهمنا جملة واحدة تحديداً حتى نعرف القيمة الحقيقية للإرث الذي تركه لنا الامام السجاد، فقد اخرج متوكل بن هارون الى يحيى صحيفة أعطاها إياه الامام الصادق في المدينة وفيها الصحيفة السجادية أملاه عليه أبيه الامام الباقر، عندها شعر يحيى بالاطمئنان وأخرج هو بدوره نسخة أخرى مما وصفه "بالدعاء الكامل مما حفظه أبي عن أبيه" وقال له: "والله يا متوكل لولا ما ذكرت من قول ابن عمّي –الامام الصادق- انني أقتل وأصلب لما دفعتها إليك، و لكنت بها ضنيناً، ولكني أعلم أن قوله حق أخذه عن آبائه أنه سيصح فخفت أن يقع مثل هذا العلم الى بني أمية فيكتموه ويدخروه في خزائنهم لأنفسهم".
لنا أن نتخيّل ما في هذا الكتاب الذي من ظاهره يبدو كأي كتاب آخر، من كنوز معرفية ذات قيمة معنوية هائلة، الى درجة ان يخشى أهل بيت رسول الله ان تقع بيد أعدائهم فيحجبونها عن شيعتهم فتكون الخسارة العظمى، كما حذرنا أمير المؤمنين في ساعاته الأخيرة من التخلّي عن القرآن الكريم "لايسبقنكم بالعمل به غيركم"، إنه كنز و إرث لا يقدر بثمن مطلقاً، إن لم تصل اليه الأيدي الأمينة وتستفيد منها للخير والصلاح، تطاله الأيدي الآثمة فتسرقها وتغيبها عن الانظار، لتكون الأمة وسط ظلام حالك دون مشعل يضيء طريقها في الحياة.
وفي "بحار الأنوار" يقول العلامة المجلسي إن مصدر تسمية الصحيفة السجادية بأنه "زبور آل محمد"، لأنه على غرار "الكتب السماوية الناقلة كلام الوحي والسماء، فانها "جرت من الله –تعالى- على لسان سيد الساجدين، علي بن الحسين زين العابدين".
يكفي تصفح المناجاة الخمسة عشر بعناوين مثل: مناجاة التائبين، ومناجاة الشاكرين، ومناجاة العارفين، ومناجاة الخائفين، كلها تنقل الانسان المسلم من حياة الانفلات والفوضى في السلوك والتفكير الى التركيز والتمعّن والتفكّر في كل حركة و سَكَنة في حياته، ومطابقتها مع هذه التعاليم الروحية لاكتشاف مواطن الخلل والزلل.
ولعل من أرقى وأروع ما في هذا السفر العظيم؛ "دعاؤه، عليه السلام في مكارم الأخلاق ومرضيّ الافعال"، التي تعد بحق مدرسة متكاملة للسلوك الحسن على الصعيد الفردي والاجتماعي، بحيث يعالج فيه الإمام الافعال السيئة بأفعال حسنة بما يشبه جمع النقيض من السلوك في آن، لكن ليس في شخص واحد، وهو محال، وإنما من شخص مسيء وآخر مُحسن يكونا وجهاً لوجه: "اللهم صل على محمد وآله، وسددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصِّلة، وأخالف من اغتابني الى حُسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأُغضي عن السيئة".
وهذا لا يعني بأي حال من الاحوال الخنوع والهوان مطلقاً لأنه مخصص للعلاقات بين الاخوة المؤمنين، بينما لغيرهم فان للإمام حديث آخر: "اللهم اجعل لي يداً على من ظلمني، ولساناً على من خاصمني، وظفراً بمن عاندني، وهب لي مكراً على من كايدني، وقدرة على من اضطهدني"، الى آخر هذا الدعاء العظيم، الى جانب اربعة وخمسين دعاءً في الصحيفة السجادية تضمنت جوانب عبادية ومعرفية وثقافية توثق العلاقة بين الانسان و ربه، كما توثق العلاقة بين الانسان نفسه وبين محيطه الاجتماعي.
واذا نقرأ عن الانتفاضات الجماهيرية المتفجرة ضد الظلم والطغيان، فهي لم تحصل بذلك الحماس والاندفاع للتضحية لولا امتلاء نفوس جماهير الأمة بتلك الشحنات الروحانية التي كان الإمام زين العابدين يضخها من خلال أدعيته وصلواته وتهجده وبكائه الى الله –تعالى- وهذا ما حيّر الحكام الأمويين في عهده، وحتى العباسيين فيما بعد، فالأئمة المعصومين في بيوتهم، وفي محراب صلاتهم، فيما الأرض تغلي كالمرجل من تحت عروشهم وهم ينادون بالرضا من آل محمد، والثأر ممن ظلم أهل بيت رسول الله.
ونحن في ذكرى مولد هذا الإمام المُلهم، نلتمس من عطر ذكراه ما يداوي أزماتنا ويرشدنا الى سبيل للخروج من ظلام الفتن والانحرافات، حريٌ بنا العودة الى تراثه وما خلفه لنا من كنوز عظيمة هي عبارة عن منهج تربوي متكامل و اسلوب حياة ناجحة بكل المقاييس، وهي كنوز بين ايدينا من المؤسف حقاً تركها للغبار يعلوها على الرفوف دون قراءتها والتدبر فيها.
اضف تعليق