لا مجاملة على الحق والحقيقة مطلقاً في سيرة حياة الامام الكاظم، وصفة كظم الغيظ كانت مقابل الأذى الجسدي والنفسي من عامة الناس بسبب جهلهم وغفلتهم عن حقيقة إمامهم، ولكنها لم تكن أمام سلطان جائر أبداً، فقبل ان يقرر هارون تسليم الامام الى السندي بن شاهك، أضطر لإطلاق سراحه تحت ضغط...

"انه لن ينقضي عني يومٌ من البلاء إلا وينقضي عنك يومٌ من الرخاء، ثم نمضي جميعاً الى يوم ليس له انقضاء يَخسرُ فيه المبطلون".

من رسالة للإمام الكاظم الى هارون العباسي

مثل جدّه الامام الحسين، ثلاثة أيام جثمانه على الأرض؛ فالإمام الحسين تُرك مقتولاً ذبيحاً وسليباً على أرض كربلاء من قبل النظام الأموي، ثم تكرر الحال على يد النظام العباسي بقتل الامام موسى بن جعفر وترك جثمانه على جسر بغداد ثلاثة أيام قبل أن يوارى الثرى.

هذا جانباً من الصراع الأبدي بين الحق والباطل، وقد تبلورت معالمه في عهد الأئمة المعصومين، واكتملت صورة التخندق بين الجانبين رغم محاولة الحكام التقليل من شأنهم في عيون الرأي العام خوفاً من تأثرهم بالرؤى والإضاءات واكتشافهم الحقائق، فقد بلغت المواجهة أوجها في عهد الامام الكاظم بعد منعطف سياسي نقل مسار الاحداث من الحرب الساخنة في عهد أمير المؤمنين و ولديه؛ الإمامين، الحسن والحسين، الى الحرب الباردة في العهود التالية الى فترة إمامة الامام الكاظم، حيث أصبحت بلغت ذروتها بفضل المنهج التربوي للأئمة؛ السجاد، والباقر، والصادق، فتشكلت شريحة من الفقهاء والعلماء والاتباع الواعين والمخلصين للرسالة، مما مكّن الإمام الكاظم لأن يشكّل ما يشبه "الدولة داخل دولة" في بلاط هارون العباسي، بفضل وجود موظفين متنفذين يتسنمون مناصب عليا مثل علي بن يقطين، أحد أبرز الوزراء المقربين الى هارون، بل حتى كان بين عناصر الشرطة (الحاجب) من يوالي الإمام ويسهّل الدخول عليه من المقربين خِفية عندما كان قيد الاحتجاز.

الدعاء سلاح المؤمن 

عندما نتحدث عن الدعاء يسرح خيال البعض الى التنسّك والرهبنة و مجانبة الواقع ومتطلبات الحياة، بينما الأمر مختلفاً عند الامام الكاظم، كما هو كذلك عند سائر المعصومين، عليهم السلام، فقد فسروا الآية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، بأروع ما يكون في سيرة حياتهم، فكانت عبادتهم تضيء الطريق نحو الحياة السعيدة التي يريدها الله –تعالى- للإنسان، و من خلال ما تضّخه من شُحنات المعارف والآداب الداخلة في الحياة الاجتماعية.

ففي أول معتقل للإمام الكاظم في البصرة بعد استدعائه من مدينة جدّه المصطفى، أمر هارون ابن عمّه الوالي هناك بأن "اقتل موسى بن جعفر"! بهذه الصراحة، فأجابه عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور: "انني لم أر من موسى بن جعفر إلا انه يصلي الليل ويصوم النهار ويدعو، وحتى في دعائه فانه لا يدعو علينا"، وهذه الكلمة الاخيرة مدعاة للتأمّل، فالصراع في مفهوم الإمام الكاظم أكبر من الاشخاص والمناصب.

نفس الاستنتاج كان عند الفضل بن الربيع قائد شرطة بغداد عندما أمر هارون بأن يكون الإمام عنده في الإقامة الجبرية، فأشفق من هذه المهمة وقال: "لا استطيع ان اجعله عندي فانه انسان لم يطأ التراب أعلم وأعبد منه في زماني هذا"، وهذه السمة الروحانية كانت تترك أثرها السريع والمباشر على الشرطة وأزلام النظام، فتسلب منهم جرأة التطاول عليه، حتى اضطر هارون ايكال الأمر، في نهاية المطاف للسندي بن شاهك المعروف بقسوته وفقدانه الضمير والانسانية كونه أحد عبيد المنصور الدوانيقي، وقد نشأ وترعرع في أجواء القسوة والزجر والمهانة، فشدد على الإمام بأقسى ما يكون، وحسب المصادر التاريخية، قيّد الإمام بسلاسل يبلغ وزنها حوالي اثني عشر كيلوغرام من الحديد. 

حتى هذا القاسي الظالم أظهر جزعه وعجزه عن المساس بعزيمة الامام وصلابته، وذات مرة تفاجأ بوجود الإمام قريب منه فصاح فزعاً: "يا ويحك! كم تخرج بسحرك وحيلتك من وراء الابواب والاغلال، فلو كنت هربت كان أحبّ إليّ من وقوفك هاهنا أريد يا موسى ان يقتلي الخليفة"؟! فردّ عليه الإمام: كيف أهرب وكرامتي (الشهادة) على أيديكم". (حياة الامام موسى بن جعفر، دراسة وتحليل- الشيخ باقر شريف القرشي).

الكلمة الشجاعة بوجه سلطان جائر

لا مجاملة على الحق والحقيقة مطلقاً في سيرة حياة الامام الكاظم، وصفة كظم الغيظ كانت مقابل الأذى الجسدي والنفسي من عامة الناس بسبب جهلهم وغفلتهم عن حقيقة إمامهم، ولكنها لم تكن أمام سلطان جائر أبداً، فقبل ان يقرر هارون تسليم الامام الى السندي بن شاهك، أضطر لإطلاق سراحه تحت ضغط وساطات من بعض الوجهاء، ولفترة زمنية استثمرها الامام ليكون قريباً الى أفراد المجتمع، وكان من ثمار هذا الحضور الاجتماعي؛ هداية بشر الحافي في القصة المعروفة، وربما هنالك الكثير من أمثال بشر، ولكن التاريخ السلطوي غيبها عنّا.

وفي فترة إطلاق سراحه كان الامام الكاظم يحرص على دخول قصر هارون كل يوم خميس ليكون قريباً على صناعة القرار وإصدار الاحكام القضائية ليضع بصمته عليها ويثبّت موقف أهل بيت رسول الله إزاء كل ما يجري، فكان يجيب على أي سؤال يطرحه هارون لتصل الإجابة الى جمهور الكتبة والفقهاء والمستشارين، حتى سأله هارون ذات مرة: لماذا الخُمس لكم؟ و انه لكثير! فأجابه الإمام: إن الذي أعطاه لنا علم أنه غير كثير، وقد جرت مناظرات عديدة داخل القصر بين الإمام وبين عديد وعاظ السلاطين. 

التقيّة

وهو المبدأ الذي عجز الكثير عن فهمه بشكل صحيح، لاسيما غير القريبين على منهج أهل بيت رسول الله، بل ومنهج الرسالة السماوية ذاتها، فقبل ان نتكلم عن تقيّة الأئمة المعصومين في عهود الجور والظلم، يجدر بنا استذكار قصة الصحابي الجليل؛ عمار بن ياسر والآية القرآنية التي نزلت في حقه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، وقد أكد عديد الباحثين والمؤرخين أن لولا هذه الطريقة الذكية لما بقي للتشيع ذكر لشدة التنكيل والقمع والتصفيات الدموية التي تعرض لها طيلة القرون الماضية، وهو ما اتخذه الامام الكاظم سلاحاً لمواجهة النظام العباسي الفاسد في عهد هارون، فكان يوصي اتباعه بإخفاء عقيدتهم وكتمان آرائهم إلا لمن يطمئنون اليه، كما يوصيهم بعدم تداول اسمه الصريح، ولا حتى القول بإمامته أمام عامة الناس، وإنما تسميته بكُنى مثل؛ العالم، والعبد الصالح، وأبو الحسن، وغيرها كثير.

وذات مرة استدعى هارون الامام الى قصره، فلما جاء قال له الإمام: "لولا اني سمعت في خبر من جدي رسول الله أن طاعة السلطان للتقية واجبة ما جئتُك"، وسأل احد اتباع الإمام عن الاتصال بالولاة فقال الامام: قال أبو جعفر الباقر: التقية ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له".

ولا علينا بآراء الآخرين حول هذا الموضوع بقدر ما يهمنا النظر في نتائج هذه الطريقة في اختراق الجهاز الحاكم أولاً؛ ثم الحفاظ على دماء وأعراض ومقدسات شيعة اهل البيت ثانياً، وهو الأهم عند الأئمة المعصومين، وعندما تكون الطليعة الرسالية والمقربين من الإمام الكاظم في أمن وسلامة بنسبة كبيرة فانهم يكونوا قادرين على التصدّي لظلم وفساد هارون من خلال تبادل الأخبار من داخل بغداد الى سائر الأمصار مما يعبئ النفوس ضد النظام الحاكم والعابث بأموال وثروات المسلمين بشكل لا يُصدق في تلك الفترة المظلمة، والتي يتحدث عنها التاريخ زوراً بأنها "العصر الذهبي"!

ولعل هذا هو الذي حدا بهارون العباسي لأن يتخذ قراراً ربما هو الاول من نوعه في تاريخ الاسلام بترحيل العلويين من مدينة بغداد الى المدينة في فترة حكمه، كما جاء في المؤلف القيّم للشيخ القرشي، لتقليص القاعدة الجماهيرية للإمام الكاظم في بغداد، ومن ثم إبعاد من لا يطمئن على ولائه الحقيقي له فيكون وسيلة إعلامية مضادة الى جماهير الأمة في الامصار والبلاد المترامية الاطراف. 

ولكن؛ كانت الاخبار والتقارير تترا الى البلاد الاسلامية بفضل التواصل المستمر بين الإمام الكاظم وشيعته، كما كانت تصل للشيعة في كل مكان رسائل الإمام وتوجيهاته، وإلا ما الذي كان يثير جذوة الثورة على الظلم والحرمان في مناطق مختلفة ضد الحكم العباسي؟ ومن الذي كان يوصل الى المحرومين والجياع من الفلاحين والكسبة ممن اهلكتهم الضرائب الحكومية باسم "الحقوق الشرعية للخليفة"، دون أن تراعى حقوقهم ومتطلباتهم من العيش الكريم، فيما كان آلاف الدنانير والدراهم تنثر على أقدام المغنيات والراقصات وشعراء الابتذال المنتشرين في بغداد؟

يذكر لنا التاريخ أن أحد المقربين الى البلاط واسمه محمد بن إبراهيم شقيق ابوالعباس السفاح، أول حاكم عباسي، جاء الى الفضل بن يحيى البرمكي يطلب منه قرضاً بمبلغ ألف درهم فأعطاه ألف ألف درهم (مليون)! أرسلها اليه الى باب داره مساءً، ولما أراد الخروج صباحاً الى القصر ليشكره، قال له الفضل: "فكرت أنك تقضي دينك بهذه المليون درهم، فعرضت حالك على أمير المؤمنين (هارون) وأخذت لك مائة ألف ألف درهم..."! 

هذا الصورة المصغّرة من بذخ البلاط العباسي في عهد هارون كان له آثاره السريعة على الواقع الاجتماعي المزري، منها ما يحدثنا عنه التاريخ (كتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني) من أن رجلٌ اسمه الوليد بن الطريف الشيباني ثار سنة 187هـ في منطقة نصيبين في بلاد أرمينيا وأذربيجان، وقتل والي هارون هناك، وأعلن الانفصال، وكان ينشد ابياتاً وهو يقاتل الجيش المرسل من قبل هارون:

أنا الوليد بن طريف الشاري

قسورة لا يصطلي بنار

جوركم أخرجني من داري

من الطبيعي أن لا يستقر هارون العباسي على الصفيح الساخن الذي تسبب هو في اشعاله، بوجود الامام الكاظم على قيد الحياة ولو أنه في غياهب السجون والزنزانات المظلمة، فكان أن دسّ اليه السمّ بواسطة السندي بن شاهك ليتخلّص من وجوده، بزعمه في بغداد، ولكن خاب ظنه لوجود الجماهير المؤمنة في بلاد فارس والعراق والحجاز وغيرها من الموالين ممن كانوا يعدون الامام الكاظم هو الخليفة الشرعي لرسول الله، فكانت تتسع مساحتهم في الامة يوماً بعد آخر، وتواكب مسيرة الإمامة مع الامام الرضا، عليه السلام، بينما مسيرة حياة هارون توقفت بموته، كما توقفت مسيرة الحكم العباسي وجميع انظمة الحكم القائمة على الدجل السياسي والديني والاستبداد وانتهاك الحقوق والحرمات.

اضف تعليق