عندما نقول الفقر مشكلة نفسية لأن حب المال الى حد العبادة لم يبدأ من القصور الرئاسية، او من خلف مكاتب الوزراء والمدراء، بل يبدأ من التاجر، والمقاول، والمهنيين من افراد المجتمع، ومن رحم هذه الشريحة المُحبة للمال يولد النظام السياسي الفاسد...
"من النِعم سعة المال، وأفضل من سعة المال، صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب".
أمير المؤمنين، عليه السلام
الفقر ظاهرة اجتماعية بأبعاد اقتصادية وسياسية، بيد أنها في الوقت نفسه مشكلة فردية وشخصية، فقد أكد الخبراء وعلماء الاقتصاد على أن الفرد لن يكون غنياً في مجتمعه وضمن نطاق بلده إلا أن يكون هو المساهم الأول في هذا الغِنى، فأي نظام سياسي، و أي حاكم لن يكون بمقدوره جعل الناس كلهم أثرياء بدعوى النزاهة ومكافحة الفقر من خلال توزيع أموال النفط والثروات المعدنية عليهم –مثلاً-، لذا فان معيار قوة البلد اقتصادياً في قوة أهل البلد صناعياً وانتاجياً.
صحيح؛ ان الفساد الإداري، والظلم في توزيع فرص العمل، وأمثالها من السياسات الاقتصادية الجائرة، لها الدور المباشر في خلق الطبقة الفقيرة في المجتمع، بيد أن هذا الفقير نفسه يمتلك القدرة على تغيير واقعه، وزعزعة استقرار الانظمة الفاسدة، إن لم يكن في العاجل ففي الآجل، كما تؤكد التجارب، وأبرز مثال لنا؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، ونحن نعيش هذه الايام ذكرى مولده السعيد، فقد تمت تنحيته عن الحكم لحوالي خمسة وعشرين سنة، فهل أمضاها مع الفقراء الذين ازداد عددهم بسبب سياسات الحكام المدعين لخلافة رسول الله؟
أول عمل قام به؛ التوجه الى أطراف المدينة والانطلاق في زراعة "الأراضي الموات"، التي لا مالك لها، مستفيداً من القانون الاسلامي "الأرض لمن عمّرها"، وخلال هذه السنوات تحول الى أكبر مالك لبساتين النخيل في المدينة، و يروي لنا التاريخ أن الأئمة المعصومين من بعده توارثوا هذه البساتين وكانت مصدر قوة اقتصادية لهم لقيادة المجتمع والأمة، أما الفقراء فقد تحولوا الى قوة ثورية قاهرة انقضت على الحاكم الثالث بعد رسول الله، وأطاحت به في قصة معروفة بعد أن ضاقوا ذرعاً به وبالأمويين المقربين منه، بسبب استئثارهم بأموال المسلمين والتلاعب بها كيفما شاؤوا، فضلاً عن استمرار وجود جذوة الفقر في الانتفاضات الشعبية العديدة في العهود الأموية والعباسية.
الفقر ليس قدراً
بخلاف بعض الافكار والرؤى التي كرست اليأس والبؤس في نفوس البشرية بحتمية الصراع الطبقي بين الفقراء والاغنياء طول الزمن، ولم يعطوا شيئاً من الأمل للفقير مقابل هذا الصراع المرير للتخلص من فقره والارتقاء الى الغنى، فان أمير المؤمنين، عليه السلام، يعد الفقر افرازاً لمشكلة نفسية و اخرى اجتماعية، فقال: "ما جاع فقير إلا بما مُتع به غنيّ"، وفي عهد الحاكم الثالث بعد رسول الله، حيث كان، عليه السلام، لا يتدخل مباشرة للضرب على أيدي الأمويين المفسدين والمتلاعبين بأموال الأمة حفاظاً على كيان الأمة وتماسك المجتمع، كان يقوم بهذا الدور الرسالي العظيم، شخصٌ عظيم هو؛ أبوذر الغفاري الذي صدّع رؤوس الامويين، وفي مقدمتهم؛ معاوية في الشام بتقريعه المستمر من خلال تلاوة الآية القرآنية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وكان يدعو الى العدل والمساواة إحياءً لسيرة النبي الأكرم.
وعندما نقول: الفقر "مشكلة نفسية" لأن حب المال الى حد العبادة لم يبدأ من القصور الرئاسية، او من خلف مكاتب الوزراء والمدراء، بل يبدأ من التاجر، والمقاول، والمهنيين من افراد المجتمع، ومن رحم هذه الشريحة المُحبة للمال يولد النظام السياسي الفاسد الذي يبتلع الملايين يومياً.
من هنا نجد رسول الله، صلى الله عليه وآله، يبين لنا الحل في إحكام الربط بين العبادة وكسب المال في حديث قدسي رواه أمير المؤمنين، أن النبي الأكرم سأل ربه –تعالى- ليلة المعراج فقال: يا رب، أيّ الاعمال أفضل؟ قال الله –تعالى-: "يا أحمد، إن العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها طلب الحلال فإن أطيب مطعمك ومشربك، فأنت في حفظي وكنفي"، بما يعني أن العمل الصالح من شأنه تغيير الواقع الفاسد، والعكس صحيح كما نشهده اليوم "فان طلب الحرام هو المنشأ الاكبر لفساد الآخرة والدنيا، أليس من طلب الحرام؛ السرقة بأنواعها، والغش، والرشوة، والاحتكار، والربا، والغصب، والقمار، تنسف أسس المجتمع والأمة وتحطم دعائم الحضارة، وتقضي على القيم والاخلاق وتسلب الناس أمنهم الاقتصادي، بل وامنهم الاجتماعي ايضاً"؟ (استراتيجية انتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الامام علي- السيد مرتضى الشيرازي).
هذا من جهة الفقير ودائرته الشخصية، أما في الحلقة الأكبر وهي الدولة والنظام الحاكم فان له الدور المؤثر في تكريس ظاهرة الفقر، وتبرير هذه الحالة لدى صاحبه بمختلف الاشكال والطرق غير المباشرة ليبقى محتاجاً أبداً، ولا يقوى على الحركة أو التفكير بأي تغيير إزاء واقعه الفاسد، وقد شهدنا هذا في سياسات التهديد والترويع في الانظمة الديكتاتورية البائدة، كما نشهد سياسات التغرير في الانظمة المدعية للديمقراطية المستمرة حالياً في الحكم، والتي تحاول إسكات الناس بالرواتب والتعيينات والخدمات! ومنح بعض الحريات غير المنضبطة للتعويض عن الحرمان والتخلف، بما يجعله قادراً على فعل كل شيء إلا تغيير واقعه الفاسد والمزري.
ثقافة الأمير
إن من يعيشون حالة الفقر، او من يُطلق عليهم بالطبقة الفقيرة، هم بالحقيقة يشكلون نسبة لا بأس بها من اليد العاملة في أي بلد بالعالم، إنما المشكلة في تجميد وتعطيل هذه الأيدي لأسباب لا نريد الخوض فيها، مما يستدعي تحرك الانسان الفقير نفسه قبل غيره، والمبادرة، ليس فقط الى العمل، وإنما للإحسان الى الآخرين، وهي تُعد استراتيجية رائعة وذكية يعلمنا إياها أمير المؤمنين بحديثه المشهور: "استغن عمّن شئت تكن نظيره، واحتج الى من شئت تكن أسيره، وأحسن الى من شئت تكن أميره"، فثقافة "أن تكون أميراً ومحسناً للناس، لو سادت المجتمع لتحول أكثر الفقراء الى أغنياء محسنين بدل أن يكونوا فقراء أسراء"، وهذا ممكن عندما يكون للفقير مصدر رزق، ولو بسيط، فان الله –تعالى- يبارك في رزقه وفي عطائه، ومن ثمّ تتقلّص نسبة الفقراء ومن يمدون أيديهم للمساعدات، ويبقى عدد قليل ممن يشكون الإعاقة او اسباب اخرى تعيقهم عن العمل، وفي حديث له، عليه السلام، واضعاً قاعدة أساس لمحاربة الفقر: "ومن فتح على نفسه باباً من المسألة فتح الله عليه باباً من الفقر".
إن العمل الذي يجعل من الفقير أميراً لن يكون بالنمط السائد في الاسواق وعالم الاقتصاد والمال، حيث اللهاث والتنافس المحموم على الاربح الأكثر بكل الطرق، وإنما بالطريقة المتوازنة التي تبقي اللجام بيد صاحبه لقيادة العمل الى حيث تحقيق الصالح العام، وليس الإثراء على حساب الآخرين، وإلا نكون في الدائرة المفرغة؛ يموت الاغنياء لينمو من خلفهم فقراء يصبحوا اغنياء جُدد يمارسوا نفس أخطاء من سبقهم، وأمير المؤمنين يبشرنا بأن "لن يفوتك ما قسم لك فأجمل في الطلب"، والاجمال، يعني العمل بحكمة واعتدال، فالمال الناتج عن الجهد المضاعف والمبالغ فيه هو الذي يدعو صاحبه للاحتكار، والغش، والتدليس، والبخل سعياً للمزيد من الارباح ورفع أرقام الارصدة الى مستويات تدعو للتفاخر.
المطلوب ليس أن يحلّ الفقير مشكلته الشخصية هو بأن يتحول غنياً، إنما خلق ثقافة الاستغناء العام، والحدّ من ظاهرة الاستعطاء ما أمكن، وهي مهمة ليست بالسهلة، ولكن تستحق تظافر الجهود من الجميع، لاسيما ونحن نمتلك، قبل اليد العاملة والإرادة والهمّة؛ كنزاً عظيماً من التعاليم الخاصة بمكافحة الفقر خلفها لنا أمير المؤمنين، عليه السلام، تمثل نبراساً للطريق الطويل لتحقيق هذا الهدف الكبير.
اضف تعليق