لم يواجه الامام الهادي أعدائه بسلاحهم و أساليبهم، وإنما باسلوبه الرسالي الناصع المتصل بسيرة جدّه المصطفى وسيرة أبيه المرتضى، فهو لم يشكل مليشيات عسكرية لمواجهة القوة العسكرية العباسية، ولم يتحول نديماً في البلاط بدعوى الدبلوماسية، ولم يشترِ الناس بالأموال والوعود الكاذبة –حاشاه- كما يفعل طلاب السلطة على مر الزمن...

لأول مرة شهدت الأمة قطيعة بين الجيش الإسلامي والمجتمع في عهد الامام الهادي، عليه السلام، الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده، والذي واكب بدايةً عهد المعتصم العباسي ذو الميول التركية من جهة أمه، وقد حفلت كتب التاريخ بشواهد عن تحول قوة الدولة من "الخليفة"، او القائد السياسي، الى القائد العسكري، فقد كان أخوال هذا الحاكم العباسي من التُرك كون أمه كانت من الإماء التركيات، فكانت سبباً في تحولات كبرى في التاريخ الإسلامي حيث جعلت مركز القرار في الدول الإسلامية بيد القادة العسكريين التُرك، وحسب المصادر فان البداية كانت في عشرين ألف عسكري تركي بالعاصمة بغداد يعيثون فساداً واجراماً بحق سكان المدينة حتى ضاق الناس بهم ذرعاً، فبدأت تنتشر أعمال الاغتيال لافرادهم وقادتهم، وتشاهد جثثهم تلقى هنا وهناك كرد فعل جماهيري، مما أجبر المعتصم على إنشاء حامية عسكرية خاصة بهم شمال بغداد أسماها "سر من رأى" ومن ثم تحولت الى مدينة فيما بعد باسم؛ سامراء.

هذه السقطة الجديدة في تاريخ الدولة العباسية أعطت شرعية جديدة للثورات الجماهيرية المسلحة، فبعد ان كانت الأسباب؛ سياسية، متمثلة بخنق الحريات، والظلم، والتمييز، اصبح ثمة عاملاً محفزاً في الساحة تمثل في فقدان الدولة هيبتها، والحاكم مكانته السياسية، فلم يكن يجرؤ المعتصم والحكام من بعد اتخاذ أي قرار دون موافقة قادتهم العسكريين من الاتراك حصراً، فقد كانوا يقادون الى كرسي الحكم ثم يُنتزعون منه بالقتل وسمل الأعين والدفن أحياءً.

أمام هكذا مشهد "عسكرتاري" عاش الامام الهادي، عليه السلام، حوالي ثلاثة وثلاثين سنة فترة إمامته، وهي تعد الأطول بين فترات الإمامة عند الأئمة المعصومين، عليهم السلام، فكان البطش بالمعارضة، واستخدام كل وسائل العنف والقسوة على أشدّها خوفاً على كرسي الحكم والامتيازات والمصالح الشخصية، وهذا ما كان يجعل المهمة الرسالية للامام الهادي ذات تعقيد وصعوبة بالغة، له ولشيعته ايضاً، بيد أنها لم تكن عصيّة البتة، لأن الامام الهادي لم يواجه أعدائه بسلاحهم و أساليبهم، وإنما باسلوبه الرسالي الناصع المتصل بسيرة جدّه المصطفى وسيرة أبيه المرتضى، فهو لم يشكل مليشيات عسكرية لمواجهة القوة العسكرية العباسية، ولم يتحول نديماً في البلاط بدعوى الدبلوماسية، ولم يشترِ الناس بالأموال والوعود الكاذبة –حاشاه- كما يفعل طلاب السلطة على مر الزمن. 

ربما كان للحكام العباسيين عيون وجواسيس يراقبون تحركات الامام الهادي، سواءً خلال وجوده في مدينة جده المصطفى، أو في مقر إقامته الجبرية في سامراء، بيد أنهم لم يكونوا سوى متزلفين طمعاً بالمال، فكانوا بين فترة وأخرى يخلقون وشاية على الإمام الهادي بأنه "يجمع المال والسلاح" فكانت تنطلق "مفرزة" من جلاوزة السلطة وتداهم دار الإمام فلم تجد شيئاً.

أما الإمام الهادي المعتقل في حامية عسكرية تحت أنظار العسكر وجواسيس القصر، كان يمارس دوره القيادي بكل دقّة ونجاح، فهو لم يجلس حبيس الدار، يقرأ القرآن الكريم وينشغل بتدوين أحاديث آبائه المعصومين، بذريعة عدم استفزاز السلطة الحاكمة وإعطائها الحجة لاتهامه ومهاجمته، بل كان يتواصل مع اتباعه الشيعة القادمين الى سامراء من قم والري ومصر والكوفة والحجاز. 

كيف تم هذا؟ 

أولاً: متابعة القائد لأحوال اتباعه، وثانياً: التزام القاعدة بأوامر القائد، كما لو أنها تجسيداً لمبدأ الحقوق والواجبات المعروف حالياً. 

القائد لا ينسى اتباعه

على سيرة آبائه الأئمة المعصومين، كان الامام الهادي حريصاً على متابعة أحوال وأخبار اتباعه الشيعة في جميع الأمصار، ولعل هذا هو الذي صنع للأئمة المعصومين ما يعبر عنه المؤرخون الشيعة بـ "دولة داخل دولة" منذ عهد الامام الكاظم، عليه السلام، عندما بلغت الحركة الرسالية ذروتها في التنظيم والوعي والانتشار رغم طغيان وبطش هارون العباسي، ولعل في عهد الامام الهادي كانت القيم والمبادئ اكثر نضوجاً لدى الناس، والوعي اكثر انتشاراً نظراً لانعكاسات فترة ولاية عهد الامام الرضا في عهد المأمون، هذه الحصيلة مكنت الامام الهادي لأن ينطلق لأول مرة بإرسال الوكلاء الى المناطق التي يتواجد في الشيعة، فقد كان التواصل في السابق عبر رواة الحديث، بيد إن هذا النظام أكد التطور الحاصل في المسيرة الرسالية، لتكون حلقة الوصل بين القائد والقاعدة أكثر قوة ورصانة. 

وجاء في بحار الانوار أن الامام الهادي كتب رسالة الى اتباعه في بغداد بأن "قد أقمت أبا علي بن راشد مقام علي بن الحسن بن عبد ربه، ومن قبله من وكلائي، وقد أوجبت في طاعته طاعتي، وفي عصيانه الخروج الى عصياني"، وجاء في نفس الرسالة يدعو شيعته لملازمة الوكيل الجديد بأن "لا تجعلوا له على أنفسكم علّة، فعليكم بالخروج عن ذلك والتسرّع الى طاعة الله وتحليل اموالكم، والحقن لدمائكم، فقد أوجبت في طاعته طاعتي وفي الخروج الى عيانه الى عصياني، فالزموا الطريق يأجركم الله ويزيدكم من فضله، فان الله بما عنده واسع كريم". 

وأهم صفة للقائد الناجح يجسدها لنا الامام الهادي شدّة حرصه على حياة اتباعه من بطش السلطة ومكائد الأعداء، فذات يوم جاء الوشاة –كعادتهم- الى المتوكل بالقول: أنت جالس في قصرك والأموال تحمل الى علي بن محمد! ستأتي قافلة من قم ومعها أموال اليه، فطلب المتوكل وزيره الفتح بن خاقان الذي كان شديد الثقة به والاعتماد عليه، بأن ينطلق بقوة عسكرية لقطع الطريق على القافلة، بيد أن الخبر وصل الى الامام قبل ان تنطلق القافلة، بأن "ارجعوا فليس هذا وقت الوصول فرجعنا –يقول أحد الرواة من مدينة قم-، واحرزنا ما كان عندنا، -أي خبأناه- فجاءنا أمره بعد أيام ان قد انفذنا اليكم إبلاً عِيراً فاحملوا عليها ما عندكم، وخلوا سبيلها قال: فحملناها و أودعناها الله فلما كان من قابل، قدمنا عليه –الامام الهادي- فقال: انظروا الى ما حملتم الينا، فنظرنا فاذا المنايح كما هي".

وهذا يؤكد لنا اهتمام الامام الهادي بأرواح ومصائر الناس قبل اهتمامه بالحقوق الشرعية والأموال مهما كانت الحاجة اليها.

واجبات القاعدة الجماهيرية 

شيعة الامام الهادي، وجميع الأئمة المعصومين، كانوا يرون في الأئمة في أزمانهم نبراساً لفكرهم ومصدراً وحيداً لثقافتهم في الحياة، فكل حركة وسكنة، وحتى خاطرة في اذهانهم كانوا يطابقوها مع ما لديهم من تعاليم أئمتهم فقط لا غيرهم، ولذا نجحوا في إسداء اكبر الخدمات للإمام الهادي وللمسيرة الرسالية وهم موظفون في البلاط العباسي ومقربون من الحكام، بحيث كانوا مصدر معلومات، وموقع ثقة الإمام بهم، ومنها ما ذكرناه آنفاً من وصول نبأ انطلاق جند المتوكل نحو قافلة القميين نحو سامراء، فعندما خرج الفتح بن خاقان من عند المتوكل، أول عمل قام به إبلاغ الإمام بالأمر قبل التوجه الى الجند لتنفيذ أوامر المتوكل.

وللمعلومة؛ فان نظير الفتح بن خاقان، كان علي بن يقطين الوزير الموثوق والمقرّب الى هارون العباسي في عهد الامام الكاظم، عليه السلام. 

وثمة رواية يذكرها صاحب البحار تؤكد سلامة طوية أصحاب الامام الهادي وهم داخل البلاط العباسي والتزامهم بما عاهدوا الإمام عليه، ومجمل الحكاية أن أحد الشيعة دخل على الامام يشكوه الفتح بن خاقان بأنه "قطع رزقي ومللني وما اتهم فيّ ذلك إلا علمه بملازمتي لك، واذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك فينبغي ان تتفضل عليّ بمسألته". فكان جواب الإمام: "تكفى ان شاءالله".

وفي نفس الليلة جاء رسول المتوكل الى داره يطلبه فدخل، و وجد عنده الفتح بن خاقان، وكانت المفاجأة ان المتوكل أعطاه كل ما شكى منه الى الإمام الهادي، فسأل الفتح بن خاقان ما اذا كان الامام الهادي قد حضر هنا، أو كتب رسالة الى البلاط، فأجاب بالنفي، وعندما خرج من القصر لحقه به بن خاقان وقال له: لست أشكّ انك سألته دعاء لك فالتمس لي منه دعاء، ولما عاد الرجل الى الامام الهادي وقصّ عليه ما حصل، مع تفصيل في الرواية، ذكر للإمام طلب بن خاقان بالدعاء له فقال له: "يجانبنا بظاهره و يوالينا بباطنه، الدعاء لمن يدعو به، اذا خلصت في طاعة الله، واعترفت برسول الله، وبحقنا أهل البيت، وسألت الله –تبارك وتعالى- شيئاً لم يحرمك".

هكذا كان الفتح بن خاقان الذي تذكره المصادر التاريخية بأنه رجلاً يجمع صفات الفضل والحنكة والذكاء، فكان محل ثقة المتوكل، وكان "لا يصبر عنه وقد استوزره وفوّض اليه إمرة الشام"، أي كان لا يعدوه في الاستشارة والاعتماد عليه في شؤون الحكم، كما جاء في "سير أعلام النبلاء"، مع ذلك فقد كان يحمل كل علامات الايمان والولاء للإمام الهادي، عليه السلام، وهكذا كان الأمر عند آخرين داخل البلاط العباسي ممن كانوا على باب غرفة الامام في إقامته الجبرية بسامراء، ويسمى "الحاجب"، فقد كانت مهمته إدخال الشيعة على الإمام الهادي بعد تهيؤ الاجواء لضمان سلامة الزائر وسلامته ايضاً. 

هؤلاء وغيرهم كثير من شيعة الامام الهادي، عليه السلام، كان عليهم التوفيق بين ثلاث أمور من الصعب جداً ان تجتمع في شخص مثل وضعهم؛ الاول: ان يحملوا أرواحهم على أكفهم، والثاني: الوفاء بما عاهدوا الإمام على قضاء حوائج المؤمنين، ودعم المسيرة الرسالية، والامر الثالث والأهم: أن يثبتوا على تقواهم وورعهم من الانزلاق الى مستنقع الفساد والانحراف مهما كانت الاسباب والمبررات، وإلا لما كان الإمام الهادي يقبل منهم كلمة او مساعدة التزاماً بالقاعدة الشرعية: "لا يُطاع الله من حيث يُعصى".

العسكر التُرك الذين بدأوا بعشرين الف في بغداد وتحولوا الى جيش ضخم بالآلاف في منتشرين في كل مكان، يعبثون بأموال المسلمين وبمصائرهم، بدءاً من "الخليفة" نفسه، وحتى أصغر قضية في الدولة، ولكنهم عجزوا عن النيل من الإمام الهادي، ومن بعده الامام العسكري، عليهما السلام، فمن المؤكد انهم كانوا يتابعون تساقط رؤوس الحكام العباسيين، واندثار ذكرهم، وتصاعد نفوذ الأئمة المعصومين وخلود ذكرهم في النفوس، دون مقدرتهم على شيء يحول دون هذا. فقد مضى الامام الهادي الى جوار ربه غيلةً على يد المعتزّ العباسي الذي لم يلبث فترة قصيرة إلا ومات بأبشع الطرق، بوضعه في طامورة والبناء عليها ليموت فيها خنقاً، ولكن ذكر الإمام وآثاره في المسيرة الرسالية باقية الى يوم القيامة.  

اضف تعليق