حديث الكساء من أعظم الأحاديث التي تُجسد عظمة أهل البيت وطهارتهم الفائقة؛ حيث اجتمع تحت ذلك الكساء أطهر خمسة في الوجود، ليشكلوا أسمى نموذج للقدوة النَّقية التي لا تشوبها شائبة، ويعكس بوضوح مكانة أهل البيت الرفيعة ويحث المسلمين على التمسك بمنهجهم القويم الذي هو مصدر الهداية والرشاد...
عن فاطمة الزهراء -عليها السلام- أنَّها قالت:"... قالَ الله عزَّ وجلَّ: يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إنِّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنِيَّةً وَلا أرضاً مَدحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجرِي وَلا فُلكاً يَسرِي إلَّا فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذِينَ هُم تَحتَ الكِساءِ. فَقالَ الأمِينُ جبرائِيل: يا رَبِّ وَمَن تَحتَ الكِساءِ، فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: هُم أهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ، هُم فاطِمَةُ وَأبُوها وَبَعلُها وَبَنُوها..."(1).
حديث الكساء الشَّريف من الأحاديث التي رويت عن مولاتنا الزهراء -عليها السلام- بعدَّة طرق، وهو مليء بالخيرات والبركات والفوائد العلمية والعقائدية والتَّاريخية، والحديث صحيح، مشهور، تناقلته المصادر الإسلامية المعتبرة لدى الفريقين، ولا يكاد أحد يشك في صدورِ هذا الحديث من الرَّسول الأعظم -صلى الله عليه وآله- بحقِّ أهلِ بيتهِ الطَّاهرين -عليهم السلام-، وقد بيَّن فيه -صلى الله عليه وآله- فضل أهل بيته -عليهم السلام؛ وهم: الإمام عليُّ بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء والإمام الحسن بن علي والإمام الحسين بن علي -عليهم السلام-.
وقد ذكر النَّبي -صلى الله عليه وآله- هذا الحديث حين جمع هؤلاء الصفوة تحت الكساء؛ ولذا سُمي هذا الحديث بحديث الكساء.
أمَّا نص الحديث من حيث اللفظ فقد رُوِيَ بصيغٍ متعددة، لكن هذه الصيغ، وإن اختلفت من حيث اللفظ إلَّا إنَّها تتحد من حيث المعنى والمضمون، فكلُّها تُشير الى أنَّ النَّبي الأعظم -صلى الله عليه وآله- أراد تطبيق آية التطهير على هؤلاء النُّخبة، كما أراد التأكيد على أنَّهم هم المقصودون من أهل البيت في آية التَّطهير، لا غيرهم.
لذلك سنحاول أن نركِّزَ على محورينِ في هذا المقال:
المحور الأوَّل: قيمة هذا الحديث الشَّريف.
المحور الثَّاني: الوقوف عند مضمون واحد من المضامين العالية.
بيان المحور الأوَّل: قيمة هذا الحديث الشَّريف.
لقد تناولَ المسلمون جميعاً الحدث الذي قام به النَّبي الأعظم -محمَّد صلى الله عليه وآله- بينه وبين أهل بيته -عليهم السلام- باهتمام بالغ، وتداولوه فيما بينهم كحدث قام به رسول الله -صلى الله عليه وآله-، فالواقعة بما هي واقعة مشهورة بين المسلمين متفق على روايتها.
ولعل المتتبِّع للروايات الموجودة في كتب المسلمين يرى أنَّ هذه الواقعة حدثت أكثر من مرَّة؛ لأنَّ الكيفيات التي روي بها هذا الحديث مختلفة مما يشير الى تعدُّد هذا الفعل من رسول الله -صلى الله عليه وآله- لأهل بيته -عليهم السلام-؛ تأكيداً لمؤدَّاه ووصول هذا التَّأكيد للأمَّة، وقد ذهب بعضُ علماء العامَّة كذلكَ الى تكرار هذا الفعل، وأنَّ النَّبي الأكرم -صلى الله عليه وآله- قام بهذا الفعل أكثر من مرَّة؛ ولهذا من يتوقف في قبول هذا الحديث كواقعة حصلت من رسول الله -صلى الله عليه وآله- في حقِّ أهل بيته -عليهم السلام- فقد أنكر رواية تصنَّف أنَّها من المتواترات(2)؛ إذ رواها نحو ثلاثين شخصاً، من بينهم خمسة من المعصومين، وهنا يثار الشَّك في تسليم المنكر وقبوله بأفعال رسول الله -صلى الله عليه وآله-؛ ولذلك عليه أن يعيدَ حساباته في علاقته مع رسول الله -صلى الله عليه وآله-، ومن ثمَّ علاقته بربِّه -تبارك وتعالى-.
وفيما يلي نذكر بعض النَّماذج التي روتها المصادر المعتمدة لدى المذاهب الأخرى:
أوَّلاً: عن عائشة قالت: "خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ(3) مِنْ شَعَرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ:(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)(4)"(5).
ثانياً: عن عمر بن أبي سلمة عن النبي -صلى الله عليه وآله- قال:" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله- (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ"(6).
ثالثاً: عن أم سلمة قالت:" في بيتي نزلت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وآله- إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي"(7).
رابعاً: في مسند أحمد بن حنبل، عن أم سلمة أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وآله- كان في بيتها فأتت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فدخلت بها عليه، فقال لها:" إدعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي والحسن والحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا أصلي في الحجرة، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ هذه الآية:(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها السَّماء، ثمَّ قال: أللَّهم إنَّ هؤلاء أهلُ بيتي وخاصتي فأًذهِب عنهم الرجسَ، وطَهِّرهم تطهيراً، اللَّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهِب عنهم الرجسَ وطَهِّرهُم تطهيراً. قالت: فأدخلتُ رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنَّك إلى خير، إنّك إلى خير"(8).
وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى نقطة مهمَّة أنَّ حديث الكساء بهذا الاسم رُوي بكيفية أخرى عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري-رضوان الله عليه- عن مولاتنا وسيدتنا فاطمة الزهراء -عليها السلام-، وهذا هو الحديث المشهور في كتب الشيعة، وقد دأب الشيعة جميعاً على قراءته والتَّبرك به في مجالس التوسل لطلب الحوائج المتعسرة من الله -سبحانه وتعالى-.
والسُّؤال هنا: إنَّ هذا الحديث الذي رواه أو الكيفية التي رواها جابر بن عبد الله الأنصاري -رضوان الله عليه- عن مولاتنا الزهراء -عليها السلام- ما قيمته السَّندية؟
وهل هو معتبر، وممكن الرُّكون إليه أم لا؟
وقبل الإجابة عن هذا السُّؤال لا بُدَّ من الإشارة إلى قضية بالغة الأهمية وهي أنَّ منهج علمائنا في الأدعية وأحاديث الفضائل والمعاجز إذا كان مضمونها يتوافق مع الكتاب الكريم ومع السُّنَّة الشريف المأثورة عن النَّبي محمَّد -صلى الله عليه وآله- وأحاديث أهل البيت -عليهم السلام- فإنَّهم لا يولون اهتمامًا كبيرًا للسند ما دام المضمون متوافقًا مع القرآن الكريم ومع الرِّوايات المعتبرة.
وبعبارة أخرى: لا يُشترط قوة السَّند في أخبار الفضائل والمعاجز؛ لأنَّ الهدف منها هو تصديق القلب بالمعارف اليقينية والتَّسليم بفضائل الحجج الطَّاهرين، الذينَ لولاهم لما خلق الله تعالى الخلق.
ولذلك سننقل بعض كلمات الأعلام حول حديث الكساء؛ لأجل التَّعرف على قيمته السَّندية وهل هو معتبر، وما موقف علمائنا منه؟
وهذه جملة من التَّصريحات التي تخص اعتبارَ هذا الحديث الشَّريف:
التَّصريح الأوَّل: يُسأل سماحة المرجع الراحل الميرزا جواد التبريزي -أعلى الله مقامه- عن صحَّة سند حديث الكساء، فيجيب: باسمه تعالى:" حديث الكساء مشهور، والثَّواب المنقول يعطى للقارئ والمتوسل بقراءته، ومن ورد في حقِّهم الحديث إلى الله سبحانه وتعالى عند الحاجات، والله العالم"(9).
التَّصريح الثَّاني: قدِّم استفتاء لسماحة المرجع الدِّيني السيد محمد صادق الروحاني-أعلى الله مقامه-: في ظل التَّشكيك في سند حديث الكساء المعروف في المنتخب والعوالم، هل تذهبون إلى تصحيح سنده وتوثيق رواته؟ وما رأيكم في دلالة الحديث؟
ولماذا ابتدأ الله بفاطمة -عليه السلام- وجعلها محوراً لجبرئيل، ولم يبتدئ بالنَّبي الأعظم -صلى الله عليه وآله-؛ لأنَّه أفضل الموجودات؟ وما سرُّ استئذان جبرئيل مرَّة اُخرى من النَّبيِّ الأعظم -صلى الله عليه وآله- في الدخول تحت الكساء بعد استئذانه من الله تعالى؟
الجواب: باسمه جلَّت أسماؤه؛ سند الحديث ابتداءً بصاحب العوالم -قدس سره- وانتهاءً بالصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري-رضوان الله عليه- في غاية الاعتبار، وليس يوجد فيه مَنْ يمكن أن يغمزَ في وثاقته إلَّا (القاسم بن يحيى)، والصَّحيح عندنا وثاقته لرواية البزنطي عنه، الذي قد ثبت في حقِّه أنَّه لا يروي إلَّا عن ثقة، ومع الإغماض عن ذلك فإنَّ نفس صحَّة السَّند للبزنطي كافية لاعتباره، ولا حاجة للنظر في أحوال الواقعينَ بعده؛ لأنَّه أحد الذينَ أجمعت الطَّائفة على تصحيح ما صحَّ عنهم، فسند الحديث صحيح بلا إشكال.
أمَّا مضامين الحديث الشَّريف عالية جداً، وما اشتمل عليه من الفضائل والكمالات لمحمَّد وآله -عليهم السلام-، مما استفاضت به الأحاديث الكثيرة والمعتبرة، فلا سبيل للتشكيك في شيءٍ من مضامينه وما دلَّ عليه.
ولعلَّ النكتة في الابتداء باسم الصدِّيقة الطاهرة -عليها السلام-، هي كونها العقد الجامع بين نوري النبوَّة والإمامة؛ فإنَّ المستفاد من روايات عالم الأنوار أنَّ النُّورينِ الشَّريفينِ كانا نوراً واحداً يتقلب في أصلاب الطَّاهرين، حتَّى انتهى إلى صلب سيِّدنا الأعظم عبد المطلب -عليه السلام-، فقسمه الله تعالى إلى نصفينِ؛ أحدهما في سيِّدنا عبدالله -عليه السلام- وهو نور النبوَّة، والآخر في صلب مولانا أبي طالب -عليه السلام- وهو نور الإمامة، وما زالا مفترقين حتَّى التقيا مرَّة أخرى في الصدِّيقة الطاهرة الزهراء -أرواحنا فداها- فصارت ملتقى النُّورين ومجمع البحرين؛ ولذا تمَّ الابتداء بذكرها قبل الابتداء بذكر كلِّ واحد من النُّورينِ مستقلّاً لكونها المحور الذي يدور النُّوران في محيطِ دائرته.
ولعلَّ الوجه في تجديد طلب الإذن من النبيِّ -صلى الله عليه وآله-، بعد طلبه من الله -سبحانه وتعالى- بالمباشرة، هو أنَّ الكينونة تحت الكساء مرتبة لم ينلها إلَّا محمَّد وآله -عليهم السلام-، وما كان يخطر في نفس جبرئيل -عليه السلام- على عظمته أن يفوز بالوصول إلى تلك المرتبة؛ ولذا كان يكرر الاستئذان من أجل الاستيقان بأنَّه قد وصل إليها، كما ومن المحتمل أيضاً: أن يكون الإذن الإلـهي معلقاً بشكل طولي على إذن نبيِّه الأعظم -صلى الله عليه وآله- فلزم على جبرئيل أن يعيد الاستئذان لكون إذن الله تعالى معلقاً على إذن رسول الله صلى الله عليه وآله(10).
التَّصريح الثَّالث: استفتاء وجه لسماحة السيد اليثربي -مدَّ ظله-.
بسم الله الرحمن الرحيم سماحة آية الله السيد اليثربي -مد ظله-... مولانا سلام عليكم، ودمتم ذخراً لأيتام آل محمد -عليهم السلام-... هذه الأيام تثار مزاعم تكذيبية حول سند ومتن حديث الكساء الشريف - بصيغته الواردة في مجمع الطريحي، وعوالم العلوم، ومفاتيح الجنان - فما هو رأيكم الشَّريف في الحديث المذكور سنداً ومتناً؟
بسمه تعالی؛ السلام علیکم ورحمة الله وبركاته:
ما رواه صاحب العوالم -رحمه الله- في حديث الكساء صحيح عندنا ولدينا طريق صحيح إلی هذه الرِّواية وفقکم الله لمرضاته -إن شاء الله-(11).
التَّصريح الرَّابع: لسماحة المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي -أعلى الله مقامه-: أمَّا سند حديث الكساء:" فقد رواه والدي -رحمه الله- في رسالة مخطوطة لـه بسند صحيح متصل الإسناد، وكلُّ واحد منهم من الأعلام"(12).
والنتيجة إنَّ لعلمائنا الأعلام كلامًا رفيعًا حول قيمة هذا الحديث الشريف؛ فهم بين من يرى اعتباره من ناحية السَّند ويرى اعتبار إسناده، ومنهم من يرى بأنَّه مشهور فيطمئن بصدوره عن المعصوم، أو أنَّه محفوف بالقرائن الكثيرة، ووفق حساب الاحتمالات وتراكم الاحتمالات يطمئن بصدوره عن المعصوم -عليه السلام-.
إذن لا يبقى مجال للمناقشة في اعتبار هذا الدعاء وصحة نسبته إلى الإمام المعصوم أو مولاتنا الزهراء
-عليها السلام-؛ وتشكيك الشَّاذ في مقابل الإجماع العلمائي شك ليس له قيمة في سوق التحصيل، ويجب رفضه على وفق قول الصادق -عليه السلام-:" خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشَّاذ النَّادر"(13)، ولا ريب أنَّ ديدن العلماء المتقدِّمين والمتأخرين على الأخذ بالحديث المذكور والعمل بمضمونه والتشكيك فيه لا يقدح بصحته، بل لا يزيده التشكيك إلاَّ جودةً ومتانةً فتأمل، وعلى فرض [ضعف السَّند] فإنَّ دلالات عباراته متوافقة مع الكتاب والسنَّة، وهو كافٍ في صحَّة اعتباره.
المحور الثَّاني: أهل البيت -عليهم السلام- علَّة الإيجاد
يحتوي هذا الحديثُ الشَّريفُ على مضامين عالية ورفيعة، تتميزُ بالعمق وتفتح آفاقًا عقائدية واسعة، وهذه المضامين والدرر تُعدُّ من الثروات الثَّمينة في مجال المعارف الإلهية، وسنركز على مضمون واحد فقط، على الرغم من كثرة المضامين، وذلك لإبراز هذا الثَّراء الضَّخم الذي نمتلكه في تراث أهل البيت -عليهم السلام-؛ لنستفيد منه في جميع نواحي الحياة.
ركَّز هذا الحديث على مطلب عقائدي رائع الى أبعد الحدود، حيث جاء في حديث الكساء:" فَقالَ الله عزَّ وجلَّ: يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إنِّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنِيَّةً وَلا أرضاً مَدحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجرِي وَلا فُلكاً يَسرِي إلَّا فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذِينَ هُم تَحتَ الكِساءِ. فَقالَ الأمِينُ جبرائِيل: يا رَبِّ وَمَن تَحتَ الكِساءِ، فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: هُم أهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ، هُم فاطِمَةُ وَأبُوها وَبَعلُها وَبَنُوها".
وقبل أن نتناولَ الآراء التي قيلت حول هذا المقطع، لا بُدَّ من الإشارة إلى مطلب مهم ألا وهو أنَّ هذا المضمون لا يوجد فقط في هذه المقطوعة من حديث الكساء، بل هو موجود في مضامين روايات أخرى رويت عن النبي –صلى الله عليه وآله- وأهل بيته -عليهم السلام-؛ فعن أبي الحسن الرضا -عليه السلام- عن آبائه عن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال:" قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: ما خلق الله خلقاً أفضل منِّي، ولا أكرم عليه منِّي، يا علي لولا نحنُ ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنَّة ولا النَّار ولا الأنبياء ولا الملائكة"(14).
ولهذه الرواية وغيرها فقد أشار الشيخ الصدوق -رضوان الله تعالى عليه- في كتاب الاعتقادات الى هذه الحقيقة حيث قال:" ويجب أن نعتقد أنَّ الله تعالى لم يخلق خلقًا أفضل من محمَّد والأئمة، وأنَّهم أحب الخلق إلى الله، وأكرمهم عليه، وأولهم إقرارًا به لما أخذ الله ميثاق النبيين (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ)(15). وأنَّ الله تعالى بعث نبيه محمدًا -صلى الله عليه وآله- إلى الأنبياء في الذر. وأنَّ الله تعالى أعطى ما أعطى كلَّ نبي على قدر معرفته نبينا، وسبقه إلى الإقرار به. وأنَّ الله تعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته -عليهم السلام- وأنّه لولاهم لما خلق الله السماء والأرض، ولا الجنَّة ولا النَّار، ولا آدم ولا حواء، ولا الملائكة ولا شيئًا مما خلق"(16)؛ وهذه الحقيقة تلقَّاها علماؤنا بالقبول؛ لأنَّها واردة كمضمون في العديد من الروايات عن أهل البيت -عليهم السلام-، وقد تكررت في مصادر كثيرة مما يثبت صحتها.
وهناك آراء عديدة نورده لفهم معنى (العلَّة) في النص المتقدِّم:
الرأي الأوَّل: إنَّ السبب في الإفاضة والخلقة هو محبة النبي وأهل بيته -عليهم السلام-، كما يظهر بوضوح في قوله تعالى:" إلَّا في(17) محبة هؤلاء الخمسة"؛ ويمكننا أن نتصور هذا المعنى بشكل أوضح إذا استندنا إلى مثال يُقرب الفكرة، ففي حال دعوة ربِّ البيت أحد العظماء إلى منزله، فإنه يدعو الناس تكريمًا لذلك العظيم، وكذلك الحال مع الله سبحانه وتعالى، فإنَّه لما أحبَّ(18) أهل البيت -عليهم السلام- جعل من محبتهم أساسًا لخلق الخلق، وهو ما يظهر في حديث الكساء:" إنِّي ما خَلَقتُ... إلَّا فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ"(19).
الرَّأي الثَّاني: المراد بالعلَّة الغائية هو أنَّهم الأصل، حيث خلق الله -سبحانه وتعالى- هؤلاء أوَّلاً، ومن نورهم وفاضل جودهم خلق الخلق، وجعل وجودهم سبباً لوجود جميع المخلوقات؛ كما خلق الله تعالى الشَّمس وأشعَّتها، فجعل الشعاع فرعاً لوجود الشمس ومظهراً لها، وهكذا الخلق الآخر ما هو إلَّا فروع وأشعة تنبثق من هذه الأنوار، يتوجهون إلى الله –تعالى- من خلالها ويعبُدونه بوساطتها، وكذلك الأمر مع من هم دونهم، فهم يمثِّلون الأصل لكلِّ ما سواهم.
عن النَّبي الأكرم -صلى الله عليه وآله- قال:" إِنَّ اللهَ خَلَقَنِي وَخَلَقَ عَلِيّاً وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ، حِينَ لا سَماءَ مَبْنِيَّةً وَلا أَرْضَ مَدْحِيَّةً وَلا ظُلْمَةَ وَلا نُورَ وَلا شَمْسَ وَلا قَمَرَ وَلا جَنَّةَ وَلا نَارَ.
فَقالَ الْعَبّاسُ: وَكَيْفَ كانَ بَدْؤُ خَلْقِكُمْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟!
فَقالَ: يا عَمُّ! لَمّا أَرادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَنَا، تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ، خَلَقَ مِنْها نُوراً؛ ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أُخْرى فَخَلَقَ مِنْها رُوحاً، ثُمَّ مَزَجَ النُّورَ بِالرُّوحِ، فَخَلَقَنِي وَخَلَقَ عَلِيّاً وَفاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ؛ فَكُنّا نُسَبِّحُهُ حِينَ لا تَسْبِيحَ وَنُقَدِّسُهُ حِينَ لا تَقْدِيسَ.
فَلَمّا أَرادَ اللهُ تَعالى أَنْ يُنْشِىءَ الصَّنْعَةَ، فَتَقَ نُورِي فَخَلَقَ مِنْهُ الْعَرْشَ؛ فَالْعَرْشُ مِنْ نُورِي وَنُورِي مِنْ نُورِ اللهِ وَنُورِي أَفْضَلُ مِنَ الْعَرْشِ.
ثُمَّ فَتَقَ نُورَ أَخِي عَلِيٍّ فَخَلَقَ مِنْهُ الْمَلائِكَةَ؛ فَالْمَلائِكَةُ مِنْ نُورِ أَخِي عَلِيٍّ وَنُورُ عَلِيٍّ مِنْ نُورِ اللهِ وَعَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلائِكَةِ.
ثُمَّ فَتَقَ نُورَ ابْنَتِي فاطِمَةَ فَخَلَقَ مِنْهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛ فَالسَّماواتُ وَالْأَرْضُ مِنْ نُورِ ابْنَتِي فاطِمَةَ؛ وَنُورُ ابْنَتِي فاطِمَةَ مِنْ نُورِ الله تَعالى، وَابْنَتِي فاطِمَةُ أَفْضَلُ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
ثُمَّ فَتَقَ نُورَ وَلَدِيَ الْحَسَنِ وَخَلَقَ مِنْهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؛ فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنْ نُورِ وَلَدِيَ الْحَسَنِ؛ وَنُورُ وَلَدِيَ الْحَسَنِ مِنْ نُورِ اللهِ؛ وَالْحَسَنُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
ثُمَّ فَتَقَ نُورَ وَلَدِيَ الْحُسَيْنِ فَخَلَقَ مِنْهُ الْجَنَّةَ وَالْحُورَ الْعِينَ؛ فَالْجَنَّةُ وَالْحُورُ الْعِينُ مِنْ نُورِ وَلَدِيَ الْحُسَيْنِ؛ وَنُورُ وَلَدِيَ الْحُسَيْنِ مِنْ نُورِ اللهِ؛ فَوَلَدِيَ الْحُسَيْنُ أَفْضَلُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْحُورِ الْعِينِ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ الظُّلُماتِ أَنْ تَمُرَّ عَلى سَحائِبِ النَّظَرِ؛ فَأَظْلَمَتِ السَّماواتُ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَضَجَّتِ الْمَلائِكَةُ بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ وَقالَتْ: إِلهَنا وَسَيِّدَنا! مُنْذُ خَلَقْتَنا وَعَرَّفْتَنا هذِهِ الْأَشْباحَ لَمْ نَرَ بَأساً؛ فَبِحَقِّ هذِهِ الْأَشْباحِ إِلَّا ما كَشَفْتَ عَنَّا هذِهِ الظُّلْمَةَ!
فَأَخْرَجَ اللهُ مِنْ نُورِ ابْنَتِي فاطِمَةَ قَنادِيلَ، فَعَلَّقَها فِي بُطْنانِ الْعَرْشِ، فَأَزْهَرَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ثُمَّ أَشْرَقَتْ بِنُورِها؛ فَلِأَجْلِ ذلِكَ سُمِّيَتِ الزَّهْراءَ.
فَقالَتِ الْمَلائِكَةُ: إِلهَنا وَسَيِّدَنا! لِمَنْ هذَا النُّورُ الزَّاهِرُ الَّذِي قَدْ أَشْرَقْتَ بِه ِالسَّماواتَ وَالْأَرْضَ؟ ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْها: هذا نُورٌ اخْتَرَعْتَهُ مِنْ نُورِ جَلالِي لِأَمَتِي فاطِمَةَ ابْنَةِ حَبِيبِي وَزَوْجَةِ وَلِيِّي وَأَخِي نَبِيِّي وَأَبِي حُجَجِي عَلى عِبادِي فِي بِلادِي. أُشْهِدُكُمْ - مَلائِكَتِي!- أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ ثَوابَ تَسْبِيحِكُمْ وَتَقْدِيسِكُمْ لِهذِهِ الْمَرْأَةِ وَشِيعَتِها وَمُحِبِّيها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
قالَ: فَلَمّا سَمِعَ الْعَبّاسُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله ذلِكَ، وَثَب وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْ عَلِيٍّ وَقالَ: وَاللهِ - يا عَلِيُّ! - أَنْتَ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لِمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"(20).
الرَّأي الثَّالث: لقد بيَّن الله –تعالى- العلَّة التي من أجلها خلق الإنسان؛ فقال الله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(21)، وهذه الآية الكريمة تشير إلى أنَّ الغرض من الخلقة هو وصول الإنسان الى أعلى مراحل الكمال والسعادة بسبب معرفة الله –تعالى- وصفاته الكماليَّة وعبادته وإطاعته وإمتثال أوامره ونواهيه وتطبيق أحكامه وتشريعاته في جميع المجالات، وهذا الغرض إنَّما يحصل ببركة أصحاب الكساء: النبي الأعظم -صلى الله عليه وآله- وعلي وفاطمة والحسن والحسين -عليهم السلام- والأئمَّة من ولد الحسين -عليه السلام- فإنَّهم الطريق الوحيد لمعرفة الله –تعالى- معرفةً كاملة بحسب قدرة البشر، وإن كان معرفته –تعالى- حقّ المعرفة مستحيلاً.
وتوضيح هذا الرَّأي: يقسِّم الفلاسفة العلَّة على أقسام؛ منها: العلة الغائية؛ وتعرف بأنَّها العلَّة التي يكون وجود الشَّيءِ لأجلها.
فمثلاً النَّجار عندما يصنع الكرسي، فالعلَّة من ذلك الجلوس عليه؛ فالجلوس علَّة غائية من أجلها قام النَّجار بصنع ذلك الكرسي.
وإذا تبيَّنت هذه الفكرة بوضوح، نعود إلى صلب موضوعنا، وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- خلق الخلق، والغاية من خلقهم هي العبادة، ولم يتحقق الهدف من الخلق بشكل كامل، ولم يُعبد الله –تعالى- كما ينبغي إلَّا من خلال الرسول الأعظم محمَّد وأهل بيته -عليهم السلام-، وبذلك شكَّلوا النَّموذج والغاية التي يريدها الله –تعالى- من الخلق أن يصلوا إليها، وكأنَّ الله –سبحانه- يقول للخلق: إذا أردتم أن تصلوا إلى العبادة التي أريدها منكم فانظروا إلى الرسول الأعظم محمَّد وأهل بيته -عليهم السلام-، والله –تعالى- يعلم بأنَّ أهل البيت -عليهم السلام- سوف يجسدون هذا النَّموذج قبل خلقهم فخلقهم مقدَّمين على سائر الخلق ورفع شأنهم وأعلى درجاتهم.
إذن، الثَّمرة من خلق الخلق تحقَّقت في وجود أهل البيت -عليهم السلام-؛ فهم المظهر الكامل للعبادة والتَّوحيد، وبهذا الوجود تحققت الغاية التي من أجلها خلق الله -سبحانه وتعالى- الخلق.
"ويمكننا الجمع بين الآية الكريمة:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(22)، وبين بعض مروياتنا التي تجعل العلَّة الغائية أهل البيت -عليهم السلام-: إنَّ الآية الكريمة تدلُّ على أنَّ الغاية من الخلق هو عبادة الله –تعالى-، وعبادته –تعالى- هو معرفته، ومعرفته لا تكون إلَّا عن طريق حججه وأوليائه، وهم أهل البيت -عليهم السلام-، فبواسطتهم يعرف العباد سبل تكليفهم، وكيفية عبادتهم لله –تعالى-، وهذه العبادة توقيفية؛ أي أنَّها موقوفة على اعتبار الشارع وأوامره، وهذه الأوامر والتوقيفات لا تعرف إلَّا بهم -عليهم السلام-، فهم علَّة غائية بالتبع للعلَّة الغائية الأولى وهي عبادة الله –تعالى-، أي أنَّ علَّتهم الغائية متفرعة من علَّة الإيجاد وهي عبادة الله –تعالى-.
فهنا مقدمتان كبرى، وصغرى؛ فالكبرى: هي إنَّ علَّة الايجاد والخلق عبادة الله –تعالى-، والعبادة له لا تكون إلَّا بالمعرفة.
والصغرى: هي أنَّ المعرفة لا تكون إلَّا عن طريقهم -عليهم السلام-.
والنتيجة: هي إنَّهم -عليهم السلام- علَّة غائية للخلق بلحاظ تعريف العباد تكليف عبادتهم لله –تعالى-؛ ولعلَّ الحديث القدسي يشير إلى هذا الجمع: يا أحمد لولاك ما خلقت الأفلاك ولولا علي ما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما؛ فالتدبُّر في الحديث يضيق لك وجوه الجمع المحتملة المشار إليها"(23).
الرَّأي الرَّابع: هناك روايات عديدة وردت من طرق الشِّيعة والمذاهب الأخرى تدلُّ على أفضليَّة النَّبي محمَّد -صلى الله عليه وآله وآله- الطاهرين -عليهم السلام- على جميع المخلوقات بما فيهم الملائكة والأنبياء والرسل، فلا محالة أن يكون خلق السَّماوات والأرض لأجل الإنسان الكامل الذي هو أفضل من غيره، بل بعض الروايات تصرح بأنَّهم غاية الخلقة.
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ:" أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَرِضَ مَرْضَةً فَأَتَتْهُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ تَعُودُهُ فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِرَسُولِ اَللَّهِ مِنَ اَلْجَهْدِ وَاَلضَّعْفِ اِسْتَعْبَرَتْ فَبَكَتْ حَتَّى سَالَ اَلدَّمْعُ عَلَى خَدَّيْهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: يَا فَاطِمَةُ إِنَّ لِكَرَامَةِ اللهِ إِيَّاكِ زَوَّجْتُكِ مَنْ أَقْدَمُهُمْ سِلْماً وَأَكْثَرُهُمْ عِلْماً وَأَعْظَمُهُمْ حِلْماً. إِنَّ االلهَ تَعَالَى اِطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ اَلْأَرْضِ اِطِّلاَعَةً فَاخْتَارَنِي مِنْهُمْ فَبَعَثَنِي نَبِيّاً مُرْسَلاً ثُمَّ اِطَّلَعَ اِطِّلاَعَةً فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَعْلَكِ فَأَوْحَى لِي أَنْ أُزَوِّجَهُ إِيَّاكِ وَأَتَّخِذَهُ وَصِيّاً"(24).
وأمّا الروايات من طرق الشيعة فهي كثيرة متواترة لا تعدُّ ولا تحصى نذكر بعضها:
في العلل والعيون والاكمال عن الرضا -عليه السلام- عن آبائه عن أمير المؤمنين -عليه السلام- قال:" قال رسول الله -صلى الله عليه وآله-: ما خلق الله خلقاً أفضل منِّي ولا أكرم عليه منِّي. إلى أن قال: يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنَّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض..."(25)، وعن الإمام علي -عليه السلام- عن النبي -صلى الله عليه وآله-:" ولولانا لم يخلق الله الجنَّة والنَار ولا الأنبياء ولا الملائكة"(26).
وإذا عرفنا هذا، فمن العجيب والغريب أن ننكر أو نستكثر الفوائد الكثيرة الموجودة في حديث الكساء، وهذا هو الرسول الأعظم -صلى الله عليه وآله- يقسم ويصرح بذلك بوضوح، ويقول:" وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيّا وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّا ماذُكِرَ خَبَرُنا هذا فِي مَحفَلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الاَرضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبِّينا، إِلَّا وَنَزَلَت عَلَيهِمُ الرَّحمَةُ وَحَفَّت بِهِمُ المَلائِكَةُ وَاستَغفَرَت لَهُم إِلى أَن يَتَفَرَّقُوا! فَقالَ عَلِيُّ -عليه السلام-: إِذا وَالله فُزنا وَفازَ شِيعَتُنا وَرَبِّ الكَعبَةِ، فَقالَ أَبِي رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيهِ وَآلِهِ-: يا عَلِيُّ وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيا وَاصطَفانِي بِالرِّسالَةِ نَجِيّا ماذُكِرَ خَبَرُنا هذا فِي مَحفَلٍ مِن مَحافِلِ أَهلِ الاَرضِ وَفِيهِ جَمعٌ مِن شِيعَتِنا وَمُحِبِّينا، وَفِيهِم مَهمُومٌ إِلَّا وَفَرَّجَ الله هَمَّهُ وَلا مَغمُومٌ إِلَّا وَكَشَفَ الله غَمَّهُ وَلا طالِبُ حاجَةٍ إِلَّا وَقَضى الله حاجَتَهُ! فَقالَ عَلِيُّ -عَلَيهِ السَّلامُ-: إِذن وَالله فُزنا وَسُعِدنا وَكَذلِكَ شِيعَتُنا فازُوا وَسُعِدُوا فِي الدُّنيا وَالآخِرةِ وَرَبِّ الكَعبَةِ"(27).
إنَّ حديث الكساء من أعظم الأحاديث التي تُجسد عظمة أهل البيت -عليهم السلام- وطهارتهم الفائقة؛ حيث اجتمع تحت ذلك الكساء أطهر خمسة في الوجود، ليشكلوا أسمى نموذج للقدوة النَّقية التي لا تشوبها شائبة، كما أنَّ هذا الحديث يعكس بوضوح مكانة أهل البيت -عليهم السلام- الرفيعة ويحث المسلمين على التمسك بمنهجهم القويم الذي هو مصدر الهداية والرشاد، ويكشف الحديث وبصورة واضحة أنَّ حبَّ أهل البيت -عليهم السلام- ليس مجرد عاطفة، بل هو جزء لا يتجزأ من الإيمان الحق، وأن اتباع نهجهم -عليهم السلام- هو السبيل إلى الوصول إلى الحقيقة والتقوى والنجاة في الدنيا والآخرة.
اضف تعليق