شكلت حياة الإمام الحسن المجتبى نقلة نوعية في سيرة المعصومين الأربعة عشر وقيادتهم للأمة بعد أن تسلّم الخلافة والقيادة من نبي و وصي نبي، وأصبح المرشد والموجه في خضم الامواج المتلاطمة من الفتن والتحديات الاجتماعية والسياسية، مما يحدونا الالتفات الى الجوانب الأخرى من حياة هذا الإمام المظلوم...

أرى الفضل العظيم للامام الحسن المجتبى في وصول معظم –إن لم نقل كلها في ضوء هذه الرواية- الروايات والاحاديث المروية عن رسول الله وأمير المؤمنين، وسائر الأئمة، عبر الحفّاظ والكتاب من ابناء الأئمة الذين أوصلوا لنا الصحيفة السجادية، وخطب أمير المؤمنين، واحاديث رسول الله، وسائر الروايات التي يستند عليها اليوم الفقه الشيعي برمته.

كلما جاء ذكر الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام، في ذكرى مولده أو ذكرى استشهاده، قفزت حادثة هدنته السياسية مع معاوية، وبسبب هذا التوجه المنهجي في الكتابة والبحث، التصقت هذه الحادثة بشخصية الامام الحسن تاريخياً، كما لو أنها اختزلت كل حياته الشريفة، وهذا أمرٌ مجحفٌ بحق الإمام بما سنتعرف عليه خلال الأسطر التالية.

فقد شكلت حياة الإمام الحسن المجتبى نقلة نوعية في سيرة المعصومين الأربعة عشر وقيادتهم للأمة بعد أن تسلّم الخلافة والقيادة من نبي و وصي نبي، وأصبح المرشد والموجه في خضم الامواج المتلاطمة من الفتن والتحديات الاجتماعية والسياسية، مما يحدونا الالتفات الى الجوانب الأخرى من حياة هذا الإمام المظلوم لما يفيدنا في حياتنا على صعيد الأخلاق والدين؛ دعامتا الإسلام في الحياة.  

سماحة القائد

نقرأ في المصادر التاريخية مقاطع من عفو وسماحة الامام الحسن المجتبى مع خادمه، أو مع عدوه، وهو في ذلك لم يكن حاكماً سياسياً ليكون معنياً عن استيعابهم وقيادتهم وكسب ودّهم و ولائهم كما يفعل الحكام على مر الزمن، إنما كان انساناً عادياً وفق النظام الاجتماعي آنذاك، يعرفه الناس بميزة واحدة فقط، وهي أنه ابن أمير المؤمنين، وحفيد رسول الله، ليس أكثر، بينما هو في قرارة نفسه يؤدي دور الإمام المسؤول عن حال ومصير الأمة كما هو منهج أبيه أمير المؤمنين: "ولعل في الحجاز أو اليمامة من لاطمع له في القُرص ولا عهد له بالشبع، أ أقنع من نفسي بأن يُقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر او أكون أسوة لهم في جشوبة العيش".

فعندما يُسارع الإمام الحسن بالعطاء لذاك الأعرابي القادم من الصحراء كل ما يملك في بيته من المال قبل أن يفصح الرجل عن مقدار حاجته، أو عندما يرد على طاقة ريحان تقدمه له خادمة له بعتق رقبتها وإزالة طوق العبودية عنها، أو الرد الجميل والمذهل على الهجوم اللفظي بالسب والشتم من ذلك الشامي المعادي لأهل البيت، وغيرها كثير من المواقف التي لم يسع التاريخ استيعابها ونقلها الينا، تمثل الرسالة الاولى لنا بأن الغاية؛ بناء الإنسان الفرد والمجتمع وفق المنهج النبوي والسماوي، وإرشاده الى الطريق الصحيح المؤدي الى سعادته.

بما يعني؛ إن من يروم التصدّي لمهمة اجتماعية او ثقافية في إطار مؤسسي او "هيأتي"، عليه الالتفات الى أن أية عملية تبليغية تحتاج بالضرورة الى مراحل بناء معنوي لإعداد النفوس لتلقي الافكار، فهي مهما كانت قدسيتها لن تجد طريقها الى القلوب والعقول وهي تسير بعنجهية وخيلاء.

وبالامكان اقتطاف باقة من حكمه الرائعة: "هلاك المرء في ثلاث، الكبر، والحرص، والحسد، فالكبر هلاك الدين وبه لُعن ابليس، والحرص عدو النفس وبه أخرج آدم من الجنة، والحسد رائد السوء، ومنه قتل قابيل هابيل"، ولمن يريد المزيد يمكن مراجعة المؤلفات الخاصة بسيرة الأئمة الاثني عشر، وما أرخه العلماء من حياة الامام الحسن المجتبى، عليه السلام. 

أما آلية البناء الانساني فقد حدده الإمام بوصية غاية في الاهمية والدقّة عندما "كان يشجع بني هاشم على العلم، والتلقّي، والحفظ، والرواية، والكتابة، وكان يدعو ابناءه وأبناء إخوته فيقول: يابنيّ وبني أخي، إنكم صغار قومٍ يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه، أو يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته". (سيرة أهل البيت، تجليات للإنسانية- حسن عباس نصر الله).

من هنا أرى الفضل العظيم للامام الحسن المجتبى في وصول معظم –إن لم نقل كلها في ضوء هذه الرواية- الروايات والاحاديث المروية عن رسول الله وأمير المؤمنين، وسائر الأئمة، عبر الحفّاظ والكتاب من ابناء الأئمة الذين أوصلوا لنا الصحيفة السجادية، وخطب أمير المؤمنين، واحاديث رسول الله، وسائر الروايات التي يستند عليها اليوم الفقه الشيعي برمته. 

الامتداد الطبيعي لرسالة السماء

يسود الاعتقاد لدى البعض أن لكل إمام من الأئمة المعصومين دورٌ مرسوم له مسبقاً، وهم في ذلك يفهمون شخصية الأئمة ويقرأونها من منظار حياتهم الاجتماعية، فكما أن ابن العالم يفترض ان يكون عالماً، وابن الفلاح يكون فلاحاً، وابن الفقير يكبر فقيراً –على الاغلب- فان الإمام أمير المؤمنين دوره الإرشاد والتبليغ استمراراً لدور النبي الأكرم، فهو الحكيم للناس، والمستشار للحكام، وليس من شأنه الحكم والقيادة السياسية، أما ابنه الحسن، فله الوداعة والرقّة! بينما للحسين الحماس والقتال، ولزين العابدين الدعاء والتضرع والبكاء، وحتى بالنسبة للإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه- فهو متخصص بالغيبة! وهذا مجانب للحقيقة عقيدة ومنطقاً، والإسلام ينفي القدرية نفياً قاطعاً، إنما دور الأئمة المعصومين امتداد لدور الانبياء والمرسلين، مهمتهم "إثارة دفائن العقول" وإضاءة الطريق المستقيم للناس ليتخذوا هم قرارهم ومصيرهم بأنفسهم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، فالناس على مر الدهور والعصور هم من يخلقون الظروف بإرادتهم في مجابهة الباطل والانحراف في السياسة والمال وفي الدين ايضاً، وبمقدار هذا الوعي والحضور في الساحة والاستعداد للتضحية بإيمان خالص، يتشكل دور القيادة الدينية. 

وذات مرة قال معاوية للإمام الحسن، عليه السلام: أنا خيرٌ منك ياحسن!

فقال الإمام: وكيف ذاك يا بن هند؟!

قال معاوية: لأن الناس قد اجموا عليّ، ولم يجمعوا عليك.

فأجابه الإمام الحسن: هيهات، لشرّ ما علوت يا بن آكلة الاكباد، المجتمعون عليك رجلان: بين مطيع ومُكره، فالطائع لك عاصٍ لله، والمُكره معذور في كتاب الله.

وقد جرى الحديث مسهباً عن الفوارق بني الثرى والثريا في تعامل معاوية والمدرسة الأموية لشراء ولاء الناس وصنع الشرعية المزيفة لحكمهم، وبين المدرسة النبوية والرسالية التي ترتكز على معيار التقوى، والمعادلة جارية حتى اليوم، والى يوم القيامة.

وفي أول رسالة للإمام الحسن بعد توليه الخلافة –السياسية- بعثها الى معاوية يحذره من مغبة الاستمرار في بغيه وتمرده على الدولة الاسلامية، أشار الى دوره ومهمته الرسالية العظيمة التي لن تستوعبها السياسة وطموحات الحكم، مبيناً فضل النبي على قريش والعرب، وبعد وفاته "تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه،ولا يحلّ لكم ان تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، بمثل ما حاجّت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، فلما صرنا أهل بيت محمد وأوليائه الى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا، واستولوا بالاجماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعنت منهم لنا، فالموعد الله وهو الوليّ النصير"، ثم أردف الإمام، عليه السلام، وهنا بيت الشاهد: "فأمسكنا عن منازعتهم مخافةً على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به"، فالأولوية للرسالة والدين وليس لشيء آخر.

 فإن كانت ظروف الامام الحسن، الذي نستذكر استشهاده بالسمّ هذه الايام، مشابهة لظروف الامام الحسين، لقام بالسيف ولشهدت الأمة والتاريخ ملحمة أعظم وأكبر من ملحمة كربلاء، بيد أن قراءة الامام الحسن للظروف الاجتماعية والسياسية في زمانه ألجأته لاتخاذ سياسة من نوع خاص مع الامة وطلاب السياسة والحكم، فحقن دماء المسلمين وحفظ بيضة الإسلام، وخاض حرباً باردة ضد معاوية ونظام حكمه، حتى أحسّ الاخير بأن الهدنة التي حصل عليها من الامام الحسن تتجه الى نخر قوائم عرشه، فاضطر الى اغتيال الامام الحسن بالسمّ، واختيار هذه الطريقة للاغتيال، تؤكد انتصار الامام الحسن في حربه الباردة ضد معاوية وهزيمته النكراء بسقوط كل أقنعة الشرعية المزيفة عن نظام حكمه، وهو ما ثبته التاريخ للاجيال الى الأبد. 

اضف تعليق