إنها ظاهرة اجتماعية عامة صاحبت الانسان منذ القدم لاسباب عديدة، كما أن المعالجات جاءت بطرق عديدة ايضاً، وصاحب الذكرى المباركة والسعيدة؛ الامام زين العابدين، عليه السلام، قدم للبشرية نموذجاً فريداً للعلاج بطريقة خاصة لهذه الظاهرة العامة من خلال صدقة السرّ...
"صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ".
الإمام زين العابدين، عليه السلام
ولد الإمام زين العابدين عليه السلام، في مثل هذه الأيام وسط أجواء عاصفة من الفتن والاضطرابات السياسية والاجتماعية في الأمة، فقد فتح عينيه على تمرّد الأمة وخذلانها جدّه أمير المؤمنين، فعاصره لعامين فقط، ثم يشهد تلك الخيانات لعمّه؛ الامام الحسن المجتبى، ويعاصره لمدة عشر سنوات، كما عاصر أباه؛ الامام الحسين، أحد عشر سنة لتكون أمامه فترة أربعاً وثلاثين عاماً فترة إمامته المتميزة بمنهج جديد ونوعي في المسيرة الثقافية لأهل بيت رسول الله، صلوات الله عليهم أجمعين.
يقول المؤرخون والباحثون، وايضاً؛ طائفة من الأمة، إنه تخلّى عن السيف الذي رفعه جدّه أمير المؤمنين، وعمه الحسن، وأبيه الحسين، وتفرّغ للعبادة والدعاء ومواساة الفقراء والعبيد، نعم؛ انه تخلّى عن السيف، ولكن استبدله بمنهج تربوي متكامل، ربما لم تشهد البشرية نظير له من قبل، يزيل عن وجه الناس غبار الحروب، ودماء الاقتتال، كما يشذب ما علق بالنفوس من أدران الغدر، والنفاق، والازدواجية، والجُبن، وكل اشكال الرذائل التي أوصلته الى مآلات مريعة ليس أقلها ما شهده الإمام بنفسه يوم عاشوراء، وبعدها في واقعة الحرّة بالمدينة، وما حصل من انتهاك لللأعراض وللمقدسات على يد جنود يزيد بن معاوية.
معالجة الفقر من جذوره
إنها ظاهرة اجتماعية عامة صاحبت الانسان منذ القدم لاسباب عديدة، كما أن المعالجات جاءت بطرق عديدة ايضاً، وصاحب الذكرى المباركة والسعيدة؛ الامام زين العابدين، عليه السلام، قدم للبشرية نموذجاً فريداً للعلاج بطريقة خاصة لهذه الظاهرة العامة من خلال "صدقة السرّ"، وهي المبادرة التي نقرأ بداياتها في عهد عمّه الامام الحسن المجتبى الذي كان يعطي السائل من وراء الباب لئلا يرى وجه الفاقة فيه وينشده ابياتاً في قصة معروفة في التاريخ، إنما في هذه البرهة الزمنية كانت الامة بحاجة الى عملية إصلاح وتقويم وتربية شاملة، فقد كان الامام يدرك الوضع النفسي لأفراد الأمة في ظروف الاضطهاد والقمع والتنكيل، لاسيما شريحة الفقراء منهم، فقد كان بإمكانه فتح باب داره لمن يريد المساعدة واستلام حصته الغذائية، او يقوم هو بنفسه مع المقربين اليه بتوزيعها على بيوت الفقراء في أي وقت، بيد أنه، عليه السلام، اختار جنح الظلام ليختفي تحته حاملاً الغذاء لبيوت الفقراء، ثم لا يطرقها ويسلمها لاصحابها، بل يطرق الباب ويتركها ويمضي الى سائر البيوت قبل ان يراه أحد.
وفق المصادر التاريخية فان عدد البيوت التي كان يشملها الامام زين العابدين بعطاياه؛ نحو مئة بيت في مدينة رسول الله، وهي المدينة التي تأسس فيها أول مجتمع شهد المساواة والمؤاخاة والعدل، وها هو حالها بعد حوالي خمسين سنة فقط من استشهاد النبي الأكرم، وينقل عن أهل المدينة أنهم "ما فقدنا صدقة السر إلا بعد موت زين العبادين".
هذه الالتفاتة الكريمة والرائعة من الإمام زين العابدين جاءت في وقتها المناسب لتزيل عن وجوه الفقراء آثار الذل والضيم التي خلقها الحكام الأمويون باستئثارهم بأموال المسلمين، وبسياسة التمييز والطبقية منذ عهد معاوية، ومروراً بابنه يزيد، ثم الحكام المروانيون من بعده، فكان سعيه في تقليل ما يبذلونه من ماء وجه طيلة ساعات يومهم من اجل الحصول على لقمة العيش.
إعادة ثوب الكرامة الى فقراء الأمة
كان الفقر كظاهرة اجتماعية موجودة في عهد النبي الأكرم، بيد أن الفقير لم يكن معرضاً للمهانة والذل بالدرجة التي آل اليه الأمر في العهد الأموي، ولطالما نهى النبي الأكرم عن أي شكل من اشكال الإهانة للفقير، كما في قصة ذلك الرجل الذي تنحى في المجلس لمجرد جلوس رجل فقير الى جنبه، فقال له النبي –مضمون الرواية-: "أخشيت أن يصيبك من فقره أو يأخذ من غناك"، وأكد القرآن الكريم هذه الوصية الاجتماعية الأساس في بناء مجتمع متماسك وناجح: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}، وهي إشارة واضحة الى ردود الفعل المتوقعة ممن يعدون انفسهم باذلي الجهود المضنية لاستحصال المال، فكيف يعطونه دون مقابل للفقير وهو جالس في بيته؟!
إن إعطاء المال كمساعدة للفقير، مسؤولية كل فرد في المجتمع، أما البحث في أسباب وقوع هذا الانسان في حالة الفقر، او مدى صحة ادعائه، فهي ليست مسؤوليته، إنما هي مسؤولية الجهات العليا مثل؛ المؤسسة الدينية (الحوزة العلمية)، او المؤسسات الخيرية، الى جانب مؤسسات الدولة والحكم، إن توفرت فيها صلاحية المتابعة والاهتمام طبعاً.
وهذا ما فعله الإمام زين العابدين تحديداً عندما أضاف الى مساعدة الفقير مادياً، مساعدته معنوياً بتقبيله قبل مناولته المال، كما جاء في "تاريخ دمشق" لابن عساكر، وفي "حلية الأولياء" لأبي نعيم، فهو، عليه السلام، يقدم رسالة الى الفقير بأن فقرك لا يجب أن يسلبك كرامتك وعزتك بين الناس، بل هي خير وسيلة لتعزيز أواصر المحبة بين افراد المجتمع، وفي كتابه "سيرة اهل البيت- تجليات للإنسانية"، يقول الدكتور حسن عباس نصر الله: إن الصدقة المعنوية حركة متطورة اذا اقترنت بالعطاء المادي، ولذلك حدد الامام التعامل مع الصدقة بالعطاء، والاحترام، والدعاء للفقير بالرزق، لأن القُبلة وحدها لا تغني من جوع.
هذه الأيام تتداول جملة يسمعها الفقراء في كل مكان: "الله يعطيك"، وهي من حيث اللفظ الظاهري؛ دعاء للرزق، بيد أنها دون محتوى، وهو يساوي من حيث الآثار العكسية مع من يوزع الأوراق النقدية على الفقراء أمام عدسات الكاميرا، كما لو أنها ظاهرة طبيعية، وعلى الفقراء ان يواصلوا عيش الضنك والتعاسة والمعاناة ليأتي بين فترة وأخرى ويمدهم بما تجود يداه، بينما في منهج الامام زين العابدين، الفقير كريم أمام الانسان غير الفقير، ومن اجل إيجاد المصداقية العملية لهذا الواقع المفترض لابد من إظهار المزيد من التعاطف والمواساة مع الفقير والنظر في حاجاته الأساسية من مسكن وملبس ومأكل، وتوفير الدواء وتعليم الأبناء، وفي مرحلة متقدمة؛ النظر في خطوات انتشالهم من مستنقع الفقر، وتحولهم الى حياة التطور في جميع مجالات الحياة.
وللقارئ الكريم أن يتصور مشهد المدينة –أية مدينة في بلاد الإسلام- وهي تعج بفقراء مشحونين بالذلّ والمهانة والاحتقار، لاسيما من فئة الشباب – ومن الجنسين- لمجرد أنهم لم يولدوا في عوائل ثرية تملك العقارات والسيارات والمِهَن المرموقة، كيف يكون سلوكهم في الشارع؟ وما هي نظرتهم إزاء الميسورين والاثرياء؟ وماذا يجول في خاطرهم؟
هذا النوع من الأسئلة تولد فايروسات ذهنية، تتحول فيما بعد الى أفكار سيئة وخطيرة يفترض ان لا تجد مكاناً في اذهان شريحة الفقراء في بلادنا، ولاسيما العراق.
اضف تعليق