q
إسلاميات - اهل البيت

مغالطة الفتنة والآمال المستحيلة

تأملات في خطبة فاطمة الزهراء (ع) (6)

يرون الحق أمامهم واضحا كوضوح الشمس، لكنهم يذهبون وراء الظلام الدامس، إنه اختبار وامتحان شديد، يغمضون أعينهم عن الفعل القبيح الذي فيه خسارة، فكل عاقل او يملك قليل من الفهم لايترك النور ويدخل في الظلام، او يختار القبح على الحسن، او يدخل في صفقة خاسرة وهو يعلم بذلك...

(مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ.. أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها)

ان خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) العظيمة سلطت الضوء على الطريق المستقيم الذي لابد للبشرية أن تسلكه من أجل الوصول إلى الغايات الكبرى، وعدم الانحراف عن ذلك مهما كانت الأوهام المؤدلجة التي تزرعها المغالطات الزائفة، عندما قالت (عليها السلام) (لا أقول غلطا ولا أفعل شططا)، فالمغالطات التمويهية تقوم بتحريف الحقيقة، لتحريف المسار ليبقى المستقبل تائها في ضبابية عدم اليقين.

نحاول أن نستكشف وجوه مغالطة الفتنة، حيث قالت (عليها السلام): (ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، -ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ-).

هذه الفتنة التي يسقط فيها خوفا من الفتنة، وهي وسيلة من وسائل المغالطة من خلال استخدام خوف الفتنة طريق للتضليل والتحريف، والابتعاد عن الحقيقة والحق والصدق.

وقد ذكرنا هذا الوجه من وجوه المغالطة في مقالنا السابق، وهو الخوف من الوقوع في الفتنة يؤدي إلى الفتنة.

2- الطموحات الوهمية القائمة على المؤامرة

وهي تتعلق بالإنسان الذي يبحث عن طموحات ليست حقيقية، طموحات عمياء يخلقها الوهم، طموحات العظمة والمجد التي يبحث عنها الإنسان، طموحات الصعود المادي الهائل، الطموح الوهمي، فلا ترتبط هكذا الطموحات بكرامة الإنسان وسموه، ونضج نفسه وبناء ذاته، بل طموحات يخلقها ذلك الجشع والطمع، وذلك الوله بالدنيا والسلطة والمال، لذلك فإن الإنسان يواجه امتحانا صعبا جدا.

هذا الامتحان وهذه الفتنة وهذه الطموحات الوهمية، قائمة على عملية صناعة المؤامرة، من أجل الوصول إلى ذلك الهدف وتلك النتيجة بأي ثمن كان، وهذه من المخاطر التي تشهدها المجتمعات كافة، عبر المؤامرة التي يقوم بها الأشرار من أجل السيطرة والهيمنة والاستيلاء والنهب والفساد.

الآية القرآنية تكشف معنى المغالطة، والطموح المادي القائم على المؤامرة: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الحديد 14.(1)

هذه الآية القرآنية تكشف زيف المؤامرات ونتيجتها، فإن المتآمرين الذين يتربصون بالآخرين ويستهدفونهم، عبر التزييف والإعلام المضلّل والكذب وتحريف الحقائق واختلاق التاريخ، فإن كل هذا الزيف وهذه المؤامرة سوف ترتدّ عليهم، ويرجع السوء ليصيبهم، لأن المؤامرة قضية خارج الحدود والقواعد والسنن الحقيقية في الحياة.

إن الإنسان الذي يكذب في حياته فهو ينافق ويسير على الطريق الأعوج، لذلك يكون خاسرا دائما في حياته، وهذه قاعدة حتمية لا نقاش فيها، أما الرابح فهو الصادق الذي يسير في الطريق المستقيم، وهو الذي يسير بطريقة صريحة وشفافة ونزيهة في الحياة.

يصنعون الفتنة ويقعون فيها

أما المتآمرون، الذين يصنعون المؤامرات ويعدون الخطط الخبيثة، لإيذاء الآخرين، والإضرار بهم واستهدافهم، وتسقيطهم، فهؤلاء هم الذين يفتنون أنفسهم، كما في الآية القرآنية (ولكنكم فتنتم أنفسكم)، فهؤلاء الذين يحاولون أن يخدعوا ويضللوا الآخرين، من أجل أهدافهم وغاياتهم الخاصة، هؤلاء يخدعون أنفسهم، حيث يصنعون الفتنة ويقعون فيها.

(وتربصتم) بمعنى انتظرتم، وانتهزتم الفرصة وخططتم لها، ولطريقة المؤامرة (وغرّتكم الأماني)، أي غرتكم الطموحات والسلطة، أصحاب الانقلابات العسكرية، هؤلاء الذين يعدون لانقلاب عسكري من أجل الوصول إلى السلطة، ولديه طموح هائل بأن يصبح رئيسا وحاكما للبلد، بعد ذلك ماذا يصبح؟

يصبح طاغية مدمّرا للبلاد، وهذا الواقع هو الذي يكتب نفسه بهذا الأسلوب، فلا يصل إلى غاية جيدة في الحياة، وإنما هذه غاية شرّيرة، غاية شيطانية، (وغرتكم الأماني) أي خدعتكم هذه الطموحات فانزلقتم في مسار عاقبته السوء والعار والكارثة.

(حتى جاء أمر الله)، فأمر الله هو الحاكم وهو القانون الحقيقي في الحياة، وهو قانون الصدق والحق، وهو الحقيقة، وليست الأماني الكاذبة والطموحات الوهمية للمتآمرين.

(وغرّكم بالله الغرور)، إن الغرور هو الخديعة الذاتية، والتي هي خديعة الشيطان، فالإنسان الذي يُصاب بالغرور يرى نفسه كبيرا جدا، ومغرور ومتضخّم، فيغترّ بأمواله، وبالسلطة الموجودة لديه، ويغترّ بعلمه، لكن هذا الإنسان يخدع نفسه، لأن الإنسان الذي يريد أن يكون كبيرا في حياته، لابد أن يكون متواضعا وحقيقيا في الحياة، وليس مغرورا زائفا، فالمغرور زائف لا يستطيع أن يحقق الشيء المطلوب لنفسه، بل هو يحاول أن يخدع الآخرين وإنما في واقع الحال يخدع نفسه.

إن المشكلة الموجودة عند هؤلاء المتآمرين والمتربصين، والذين يسلكون مغالطة الفتنة، إنهم يخدعون أنفسهم بسلوك طريق الضلال والانحراف، عن طريق انتهاز الفرص والانقضاض والاستيلاء والانقلاب من أجل الوصول إلى السلطة، بأي ثمن كان حتى لو أدى ذلك إلى تدمير البلاد والعباد.

خطر الانقلاب على الدين

تقول الآية القرآنية: (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) التوبة 98.

فهؤلاء الانتهازيين يدور ويبحث عن منفذ، ويخطط ويرسم حتى يستولي وينقلب، لكنه بالنتيجة تدور (عليهم دائرة السوء)، وتنقلب عليه الأمور، لان الانقلابي ينقلب على الحقيقة والواقع والمجتمع، والدين. فهو يقوم بحركة تدميرية تؤدي الى تحطيم الواقع ونشر الفوضى، ويكون هو ضحية اعمال نفسه، ويصبح خاسرا في كل الأحوال.

أخطر شيء إنه ينقلب على الدين، ويتخذ من الدين وسيلة لتحقيق مآربه، هذا هو الذي تدور عليه الدوائر، كما حاول أن يدير الدوائر، فترجع عليه دائرة السوء، لأن الدنيا قائمة على الحقائق، على الأسباب والمسبّبات، فمن يعمل الشر سوف يرى الشر، والذي يعمل الخير سوف يرى الخير.

(وارتبتم وتربّصتم) لأن الإنسان المرتاب يكون دائما في حالة شك، فيتساءل (ما الذي يثبت إن الله موجود)، وما الذي يثبت أن الدين حقيقي، فدعونا نستأنس بالدنيا ونتمتع فيها، دعونا نصل إلى السلطة، ونكتنز الأموال، المهم عندنا الدنيا وملذاتها، لكن هذا الارتياب يدمّر الإنسان وشخصيه ويجعله هشًّا ضعيفا زائفا، كاذبا، باطلا، وعندما يصل إلى أمر الله سبحانه وتعالى ويكتشف الحقيقة، وأن عمره كله قد ضاع في الزيف والضلال والانحراف.

لذا فإن الارتياب خطير، فالإنسان عندما يرى الآخرين سائرين في طريق الدنيا والمال والسرقة والنهب والفساد، فإنه يسير معهم، وينساق مع القطيع الاعمى الهمجي الذي يحاول فقط أن يغتنم المغانم، وهذا خطأ جسيم، لأنه يعيش في عالم الوهم وتخدعه الآمال والأماني الكاذبة والخيال الكاذب المزيف.

تخدعه الشهوات والغرائز، حين يلهث وراء الأهداف المادية، لكن هذه الأمور عبارة عن خديعة شخصية، يصاب بها الإنسان المغتر بالأماني والطموحات الزائفة.

نتائج الوقوع في الوساوس الشيطانية

لذلك فإن الوساوس الشيطانية التي تنتاب الإنسان، تجعله شكّاكا في العقاب الإلهي، شكّاكا في العاقبة، شكّاكا في المخاطر التي يولّدها، فهذا الإنسان يولّد حربا هائلة ويدمر الناس ويقتل الملايين، لأنه يعيش الارتياب والشك من العاقبة الكبرى في سلوكه وأهدافه ونتائجه.

هكذا يقع هؤلاء في دوامة الانحراف بسبب الشك الذي يبثّونه في الحياة، الشك الذي يبثونه في الدين والعقائد، وعندما يفتقد الإنسان عقائده ويسيطر الريب والشك في الدين وفي الله وفي التوحيد، فماذا يبقى لهذا الإنسان في حياته؟

فالحياة قائمة على الشكر والتوحيد والعبودية لله سبحانه وتعالى، فإذا بقي الإنسان عائما هائما في حياته، سوف يبقى غير مستقر، ويكون زائغا غير مستقيم، هذا هو مصير الإنسان الذي ينهشه الشك، ويتآكله فيضمحل ويضمحل حتى يزول وينقلع عن معناه وروحه، فلا تشبعه الماديات، ولا تشبعه السلطة، ولا يشبعه ذلك النهم وذلك الحرص على الدنيا.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فَمَا خُلِقَ امْرُؤٌ عَبَثاً فَيَلْهُوَ وَلَا تُرِكَ سُدًى فَيَلْغُوَ وَمَا دُنْيَاهُ الَّتِي تَحَسَّنَتْ لَهُ بِخَلَفٍ مِنَ الْآخِرَةِ الَّتِي قَبَّحَهَا سُوءُ النَّظَرِ عِنْدَهُ وَمَا الْمَغْرُورُ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَعْلَى هِمَّتِهِ كَالْآخَرِ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الْآخِرَةِ بِأَدْنَى سُهْمَتِهِ)(2)، فهذا الإنسان الذي يقع في الدنيا (بـ همّية) هائلة لا يربح شيئا وان نال نعيم الدنيا، أما الإنسان الذي يسعى في طريق الآخرة ولو (بـ همّية) قليلة، فهذا هو الذي يربح بقدر همته بسعيه نحو الآخرة، فإنَّ أقل قليل من الآخرة خير من أكثر كثير من الدنيا.

الغرور بالآمال الوهمية

وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (إن من غرته الدنيا بمحال الآمال وخدعته بزور الأماني أورثته كمها، وألبسته عمى، وقطعته عن الأخرى، وأوردته موارد الردى)(3). ما أعمق مفهوم هذه الرواية، فالإنسان المغرور هو المغرور في الدنيا، فيحسب أن الدنيا أبدية خالدة، ولكن هذا خطأ كبير، فهذا المغرور كم سيعيش في حياته، فلابد أن يأتي يوم تنتهي فيه حياته، ولا ينفعه غروره، فليست الحياة أبدية، بل هي قصيرة.

يغمض عينيه ويفتحهما فيرى أن حياته قد انتهت، هذا هو المغرور في الدنيا، إنه مغرور بمحال الآمال أي بالآمال المستحيلة، والطموحات الوهمية الزائفة، (وخدعته بزور الأماني) يعني بالأماني المزيفة، حيث يندهش حين يرى الماديات والأبراج والأسواق والملابس الباهظة الثمن، فينخدع بألوانها وشكلياتها.

لقد تطور العالم الافتراضي كثيرا في عالم اليوم، ولابد أنكم لاحظتم هذا التطور الهائل، إنه عالم زائف لكنه أصبح قريبا من الحقيقة، ولكن هل هو حقيقة؟، كلنا يدرك أن هذا العالم الافتراضي، والعالم الرقمي، هو عالم زائف وغير حقيقي، لكن الإنسان يمضي إليه ويستمتع به، الدنيا هي كذلك أيضا، فهي عالم غير حقيقي، بل عالم زائف بمادياته، وهي عالم حقيقي من خلال القيم والأخلاقيات والدين للوصول إلى الآخرة.

الأصمّ لا يسمع الحقيقة

(وأورثته كمّها)، حيث لايهتم بسماع الحقيقة، ولا يسعى الى معرفتها، (وألبسته عمى)، أي تغطي بصيرته، فالمغرور بالدنيا يراها في عينه فقط، لأنه يصبح أعمى البصيرة، وهو مفهوم مجازي جميل، يعني بأن الدنيا تلبس الإنسان فتجعله ملبّسا بالعمى مخدوعا ضالًا.

(وقطعته عن الأخرى) أي الآخرة (وأوردته موارد الردى)، يعني ادخلته في الهلاك، فالمغرور في الدنيا هو على حافة الهاوية، وقد يسقط في أعماقها، إن لم ينتبه ويتراجع ويتوب ويحاسب نفسه، فهذه هي المخاطر الكبيرة التي يتعرض لها الإنسان، من خلال الوقوع في مغالطة الفتنة.

المغالطة في الفتنة تعني الاغترار بالدنيا، والوقوع في السلطة، والانخداع بالزيف وبالنتيجة فإن مغالطة الفتنة تؤدي إلى (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)، حيث تعود عليهم دائرة السوء وترتدّ عليهم كل تلك السلوكيات والأساليب التي ارتكبوها في حياتهم.

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة 8، فالإنسان سيرى نتيجة أعماله، إذا كانت خيرا سيرى خيرا، وإذا كانت شرا سيرى شرا، فيرتدّ عليه عمله، لذلك لابد على الإنسان أن يحسب حساب المخاطر حسابا رياضيا دقيقا، حتى يصل إلى النتائج الصحيحة في الحياة، ولا تلبّسه الدنيا بغرورها، وتجعله أعمى وأطرشا ومخدوعا بأمانيه الزائفة وآماله المستحيلة.

3- تغليف الصدق بالكذب والكذب بالصدق

هذه قضية غريبة جدا في حياة البشر، إنها امتحان للإنسان في حياته، فلابد أن يمر الإنسان بعدد من الامتحانات الكبيرة في حياته، حتى يبرز هذا الإنسان وتبرز قيمته ويبان جوهره، من خلال هذه الامتحانات، ولابد أن يتجاوز هذا الامتحانات ولا يخاف منها، بل يجابه الفتنة، ويواجه الامتحان، وعليه أن ينجح فيه.

ولكن لابد أن يكون ذكيا فاهما واعيا، ولا يُغلَّف عليه الصدق بالكذب، وهو أيضا عليه أن يحترس من الدنيا ولا يسمح لها بأن تغرّه فيغلّف هو الصدق بالكذب، إشباعا لنفسه وذاته المحطمة بالغرور الزائف وحب الدنيا والآمال الزائفة.

قال الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ) العنكبوت 4.

هؤلاء الذين يغلفون الكذب بالصدق، والصدق بالكذب، ساء ما يحكمون ويتصورون أنهم يستطيعوا أن ينتصروا على الله سبحانه وتعالى، فإنهم لا يستطيعون ذلك، اقرأوا التاريخ، تاريخ المضللين والمزيفين والكاذبين، فهؤلاء لم ينتصروا ولن ينتصروا بل انتصرت القيم، وانتصرت المبادئ التي جسَّدها أهل البيت (عليهم السلام).

الله سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المغرورين، أن الناس دخلوا في الفتنة (الامتحان) من أجل أن يكشف الصادقين من الكاذبين، فليكن الإنسان في صف الصادقين، ولا يكون في صف الكاذبين.

وعن الامام الصادق (عليه السلام): (معنى يفتنون: يبتلون في أنفسهم وأموالهم)(4).

فعندما يكون الإنسان فقير الحال، لا يظهر عليه شيء، فهو لم يصل إلى الفتنة، ولكن عندما يحصل على المال ويصبح غنيا، هنا يُفتَن الإنسان ويُختبَر حتى ينكشف هل كان صادقا وهل بقي كما كان فقيرا أم أصبح كاذبا عندما أصبح غنيا؟

فتنة الإنسان امتحان إلهي شديد

يُفتَن الإنسان بأمواله، بأولاده، بعلمه، بالسلطة التي يتربّع على عرشها، فعندما كان خارج السلطة، كان يتكلم ضد السلطة ويقول بأن أصحاب السلطة كاذبون وفاسدون، وعندما أصبح هو صاحب السلطة، هنا سوف يبيّن كذبه من صدقه، فهل يكون في صف الصادقين أم في صف الكاذبين؟، هذا هو الامتحان الكبير الذي يواجهه الإنسان في حياته كل يوم.

(وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه لما نزلت هذه الآية قال: لابد من فتنة يبتلى بها الأمة بها، ليتعين الصادق من الكاذب، لان الوحي قد انقطع، وبقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة)(5).

أي أن السيف بقي بيد الظالمين وافتراق الكلمة، يعني المغالطة، الفتنة، الانشقاق، سيبقى إلى يوم القيامة وهذا امتحان إلهي شديد.

هنا لابد أن يتميز الإنسان بصدقه وكذبه، فهل هو مع الحق، ومع أهل البيت (عليهم السلام)؟، وهل يلتزم بوصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله )، وهل يسير بما ورد في القرآن الكريم ويتبع القرآن الحكيم ويجعل منه حكما؟، هنا لابد للإنسان أن يتبيّن نفسه وهل هو صادق أم كاذب؟

4- قلب الحق باطلا، والباطل حقا

بعضهم من أجل أن يمارس عملية التزييف، وخلق وصناعة الفتنة عبر المغالطة، يقوم بتحريف وتزييف وتحويل الباطل إلى حق والحق إلى باطل، على سبيل المثال، القضاء مهنة شريفة وسامية، القضاء يعني العدالة والميزان، والحكم بين الناس بالعدل، وإعطاء الحق لصاحب الحق، والحكم بالحق، لكن القاضي عندما يكون مرتشيا –لا سمح الله- فماذا يعمل ويقرر، سوف يقلب الحق ويجعله باطلا، ويقلب الباطل ويجعله حقا.

هذه مغالطة العدالة، وتزييف العدالة، وجعلها طريقا وسلَّما للرشوة، وللظلم والتزييف.

جاء في الآية القرآنية: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُون)َ التوبة 48. إن الحق ينتصر بالنتيجة، الحق يبقى والباطل يُزهَق لأن الحق هو الباقي، لأن الحق هو الله سبحانه وتعالى.

فهؤلاء الذين يقلبون الفتنة ويقلبون الحق، ويجعلونه باطلا، لا يستطيعون ذلك، لأن الحق أبديّ وحتمي ولايزول، وهو الله سبحانه وتعالى، حتى وإن كرهوا ذلك، فهم لا يستطيعون أن يزيفوا الحقيقة، فالحقيقة ناصعة البياض وثابتة، ولا تتغير، حتى لو حوّلوا الحقيقة إلى حقيقة نسبية، بعضهم حاول أن يغيّر الحقيقة إلى نسبية من أجل خلق المغالطة، وبالتالي حاولوا أن يزيفوا الحقيقة بأن يجعلوها متغيرة بحسب مزاج الفرد.

السيدة الزهراء (عليها السلام) تؤكد على هذا المطلب، وتكشف عملية الانقلاب من الحق إلى الباطل، ومحاولة جعل الباطل حقا، فقالت (عليها السلام): (مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ.. أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها)(6).

(المسرعة إلى قيل الباطل)، فهم يرون الحق أمامهم واضحا كوضوح الشمس، لكنهم يذهبون وراء الظلام الدامس، إنه اختبار وامتحان شديد، فعجيب أمر هذا الإنسان الذي يترك الشمس الساطعة ويذهب نحو الظلام الدامس؟

(المغضية أعينهم) أي يغمضون أعينهم عن الفعل القبيح الذي فيه خسارة، فكل عاقل او يملك قليل من الفهم لايترك النور ويدخل في الظلام، او يختار القبح على الحسن، او يدخل في صفقة خاسرة وهو يعلم بذلك، لكنهم تركوا كل الوضوح لان أبواب قلوبهم مغلقة، غير منفتحة للحق، وقد أصبحت قلوبهم مقفلة لأنهم انغمسوا في الدنيا وغرورها، وزيفها وبريق أموالها، فسقطوا في امتحان الفتنة، وخسروا الشمس الواضحة.

وذلك الحق الواضح، هو حق أهل البيت (عليهم السلام)، لهذا لابد على الإنسان أن يحسب للمخاطر، والتحديات والفرص، ولابد أن يرى المخاطر التي ينتجها الباطل، وعليه أن لا ينخدع بمقولات الباطل، ولا يذهب وراءها، بل يذهب في تجاه الشمس الناصعة الصادقة، وهي شمس أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يفتن وذلك بان يكون قلبه منفتحا ويكون صادقا مع نفسه ومع روحه وينفتح في تفكيره، حتى يستطيع أن يربح.

وللبحث تتمة...

..............................................
(1) ينادونهم، أي المنافقون ينادون المؤمنين، ألم نكن معكم، في الدنيا لأنا كنا في زمرة المؤمنين فكيف صرنا هكذا مع الكافرين، قالوا، أي المؤمنون، بلى، كنتم معنا في الظاهر، ولكنكم فتنتم أنفسكم، بالنفاق، وتربصتم، أي انتظرتم بنا شراً، وارتبتم، شككتم في الدين، وغرتكم، خدعتكم، الأماني، الآمال الطوال بأن تركتم الدين أملاً للبقاء في الدنيا، حتى جاء أمر الله، بالموت، وغركم بالله الغرور، الشيطان الخادع غركم وقال إن الله يتجاوز عنكم. ( تبيين القرآن، للمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي).
(2) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم 370.
(3) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ١٥٢.
(4) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٤ - الصفحة ٤٢.
(5) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٤ - الصفحة ٤٢.
(6) الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج ١ - الصفحة ١٤٤.

اضف تعليق