إن ترك الحاسد وشأنه، لاسيما في مجال العلم والتعلّم، خيارٌ غير مفيد اجتماعياً، فالقضية بحاجة الى مصارحة مدعومة بالمنطق والدليل بأنه مخطئ اذا ما تمنى زوال نعمة انسان، مثل نعمة العلم، ثم إن هذه الأمنية لن تعود عليه بشيء سوى تراكم مشاعر الضعة والاحتقار، في حين وجود الانسان العالم النزيه والمخلص نعمة ومصدر خير له لحل مختلف المعضلات والمشكلات...
في مسيرة العلم والمعرفة لا يلتفت الطالب الطموح الى ما يعرقل مسيرته الى المراقي والمعالي، ولا يأبه –على الأغلب- بالصعوبات والتحديات، بل يجد فيها فرصة لإظهار المقدرة وتحقيق النجاح في ظروف غير طبيعية، بيد أن ثمة أمور لها وجود حقيقي على الأرض، تفعل فعلها دون الحاجة للاعتراف بوجودها، مثل؛ الحسد.
الامام الصادق و العلم للجميع
لا أجدني بحاجة الى الخوض في موضوع نفسي لست من متخصصيه علمياً، إنما لتوضيح هذه الحالة الابتلائية عند الكثير، طبعاً في الخطين المتوازيين؛ من هو مُصاب بها، ومن هو ضحيتها، فهي إفراز شعوري بالضِعة أمام متفوق عالٍ في مجال العلم والعمل والمال، وقبل الاستطراد في هذا السياق، أرى من أهم عوامل نشوء بذرة الحسد، ثم استفحالها في النفس؛ حالة التعالي من ذوي المَكِنة في المجتمع، مما يثير لدى الآخرين مشاعر سلبية غير حسنة إزاء الشاب الجامعي، او الفتاة المدللة، او المرأة المرفهة، او الرجل الثري.
وهذا ما عالجه الأئمة المعصومون، عليهم السلام، في بحوثهم في العلاقات الاجتماعية، وتحديداً في الأخلاق والسلوك وتهذيب النفس، ومن الناحية العملية؛ التأكيد على عدم احتكار العلم، بل والسعي لنشره ومشاركته الآخرين؛ "زكاة العلم نشره"، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، وهكذا كانت سيرة الامام الصادق، عليه السلام، الذي نعيش هذه الايام ذكرى مولده العطِر، وهو المعروف في العالم الاسلامي، والعالم الغربي بأنه باني لكثير من القواعد العلمية، وصاحب الفضل في توصل البشرية الى عديد الاكتشافات في الطب والهندسة والفلك والكيمياء، فهو لم يكن ليجلس في زاوية نائية مع عدد محدود من الاتباع المؤمنين والموالين لأهل بيت رسول الله، بل كانت حلقته الدراسية يحضرها حوالي اربعة آلاف عالم ومحدّث وفقيه من شتى أرجاء البلاد الاسلامية، كلهم يقولون: "حدثني جعفر بن محمد"، كما في الرواية، ومن هؤلاء، ربما من هو على خلاف فقهي و فكري معه، لكن المهم عنده نشر العلم للجميع، وهي سنّة رسول الله، والأئمة من بعده، نشر مفاهيم وقيم الخير والصلاح لجميع الناس لتعم الفائدة الأمة كلها.
علاج الامام الصادق للعالم الحسود
لا يحتاج الأمر الى تعويذات، او إخفاء وتمويه، كما يفعل الكثير في المدارس والجامعات لإبعاد العيون، وما يمكن أن تلحقه من أضرار مفاجئة، بل العكس تماماً، كما يعلمنا الامام الصادق، عليه السلام؛ المصارحة بالعلم والمنطق لتصحيح ما يعتقد ويتصور به الطرف المقابل، وتتغذى عليه حالة الحسد في النفس.
ولعل من أبرز الحاسدين لمكانة الامام الصادق العلمية؛ النعمان بن ثابت، فكان من بين مئات العلماء والمحدثين في الكوفة يكيد للإمام بمسائل بظنه تعجيزية لتسقيط الإمام الصادق أمام الناس، فكان كثير الجدال والاعتراض معه، عليه السلام، بيد أن الجواب كان هادئاً كالماء البارد على نار مستعرة.
مثال ذلك؛ أنه ذات مرة سمع أن الامام الصادق وفد الى ابو جعفر المنصور، فقال أبو حنيفة لنفرٍ من اصحابه: انطلقوا بنا الى إمام الرافضة نسأله عن أشياء نحيّره فيها! (الامام الصادق من المهد الى اللحد- السيد محمد كاظم القزويني)، وقد نقلت المصادر التاريخية مناظرات عديدة لهذا "العالم" مع الامام الصادق، وفي كل مرة ينسحب خائباً أمام الاجابات القاطعة له، عليه السلام، ولاسيما فيما يتعلق بالقياس في استخراج الاحكام الشرعية الذي كان يعتقد به أبوحنيفة ايماناً قاطعاً، ولطالما حذره منها الامام، منبهاً الى أنها من صُنع ابليس الذي قاس بينه وبين آدم، وبسبب هذا القياس عصى الله –تعالى- في السجود لآدم؛ {خَلقْتَني مِنْ نَارٍ وَخَلقْتهُ مِنْ طِين}.
و نُقل أن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الامام الصادق، عليه السلام، ذات يوم، فلما رفع الامام يده من الطعام قال: "الحمد لله رب العالمين، اللهم إن هذا منك ومن رسولك"، فقال أبوحنيفة فوراً: يا أباعبد الله، أجعلت مع الله شريكاً! فقال له الامام: ويلك، إن الله –تعالى- يقول في كتابه: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وفي آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، فقال ابوحنيفة: والله لكأني ما قرأتهما قطّ من كتاب الله، ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت!
وللمزيد من تفاصيل المناظرات بين الامام الصادق وابوحنيفة، بالامكان مراجعة المصادر التاريخية للوقوف على طبيعة تعامل الامام مع هذه الحالة النفسية.
وللعلم؛ فان ابوحنيفة كان من بين أولئك الملازمين لدروس الامام الصادق، عليه السلام، في الكوفة، بيد أن "حب الرئاسة" التي استخرجها الامام الصادق من كوامنه ليضعه أمام الامر الواقع، عندما وعد الإمام بأنه لن يقس الأحكام الشرعية بعد كل ما تلقاه من أجوبه مفحمة، فقال له الإمام بأن هذا المنحى ملازمه لحبّه الرئاسة، فقد عُين من قبل الدولة العباسية مفتياً للناس في الكوفة، رغم اعترافه بأني "صاحب رأي وصاحب قياس ولا علم لي بكتاب الله"! عندما حاججه الإمام بكتاب الله في جميع المسائل التي سألها.
إن ترك الحاسد وشأنه، لاسيما في مجال العلم والتعلّم، خيارٌ غير مفيد اجتماعياً، فالقضية بحاجة الى مصارحة مدعومة بالمنطق والدليل بأنه مخطئ اذا ما تمنى زوال نعمة انسان، مثل نعمة العلم، ثم إن هذه الأمنية لن تعود عليه بشيء سوى تراكم مشاعر الضعة والاحتقار، في حين وجود الانسان العالم النزيه والمخلص نعمة ومصدر خير له لحل مختلف المعضلات والمشكلات.
اضف تعليق