تحدثنا عن الإمام الجواد، عليه السلام، في مقال سابق، وعن تميزه بشبابه وهو إمام معصوم مفترض الطاعة، تسّلم مهام الإمامة وهو ابن تسع سنين، ليواجه اوضاعاً صعبة للغاية في ميادين العقيدة والسياسة والاجتماع، فقد تحولت طريقة تعامل الحكام مع التشيع ومذهب أهل البيت...
"الدين عزّ، والعلم كنز، والصمت نور، وغاية الزهد الورع، ولا هدم للدين مثل البِدَع".
الإمام محمد بن علي الجواد، عليه السلام
تحدثنا عن الإمام الجواد، عليه السلام، في مقال سابق، وعن تميزه بشبابه وهو إمام معصوم مفترض الطاعة، تسّلم مهام الإمامة وهو ابن تسع سنين، ليواجه اوضاعاً صعبة للغاية في ميادين العقيدة والسياسة والاجتماع، فقد تحولت طريقة تعامل الحكام مع التشيع ومذهب أهل البيت؛ من الحرب (السيف) الى الدبلوماسية (الحيلة والمكر)، وهو ما يكشف عن عظمة الامام الجواد، ودوره الكبير في مواجهة هذا التحدي الجديد بكل قوة و اقتدار، رغم كون الساحة الاجتماعية والسياسية كانت بمعظمها في صف الحكام العباسيين، لاسيما في عهد المأمون الذي نجح الى حدٍ ما بإيهام الأمة –وما يزال- من أنه يختلف عمن سبقه من الحكام في تعامله مع أئمة أهل البيت، طمعاً بالشرعية، والأهم منها؛ زجّ الأمة في عقيدة واحدة يقتنع بها (مذهب الاعتزال)، وإلغاء مذهب أهل البيت، عليهم السلام، وحتى سائر المذاهب الأخرى، إنما الجميع في إطار واحد، و في ظل حاكم واحد.
محاولة فاشلة لاحتواء مذهب أهل البيت
تحدث التاريخ عن قرار المأمون تزويج ابنته للإمام الجواد، عليه السلام، وكيف أنه واجه الرفض من كبار الأسرة العباسية، ثم حادثة المناظرة التاريخية التي رجا العباسيون ان تكون وسيلة لإظهار عجز الامام علمياً لثني المأمون عن قراره، بل وتغيير رأيه بالإمام الجواد الذي تقول المصادر أنه كان معجباً بشخصيته العلمية والاخلاقية.
كان يحيى بن أكثم صاحب الحظ التعيس ليكون ضحية للعباسيين في هزيمة منكرة أمام الامام الجواد في هذه المناظرة، وهو يعد نفسه أكبر فقهاء زمانه، ويلوذ بالصمت أمام جواب الإمام عن مسألته؛ "ما حكم مُحرمٍ قتل صيداً"؟ ثم توجه الامام الجواد الى هذا "الفقيه" ليسأله بالمقابل، عن مسألة فقهية ايضاً، ليتلقى الصفعة الثانية، عندما عجز عن حلّ مسألة ملغّزة قصدها الامام ليكشف حقيقة فقهاء السلاطين، بأن "ما حكم رجل نظر الى امرأة في أول النهار فكان نظره اليها حراماً، فلما ارتفع النهار حلّت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، ولما كان وقت العصر حلّت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه"؟!
قبل هذا وذاك، كان المأمون قد حذر كبار العباسيين من التورط في مناظرة الامام لما عرفه و استيقنه بنفسه من مناظرة الامام الرضا، عليه السلام، مع رؤوس الاديان والمذاهب في زمانهم، وكيف أفحم الجميع في مجلس غصّ بالحاضرين، واعتمد كتبهم على أحقية الإسلام ومذهب أهل بيت رسول الله، ولكن! هذا التحذير لم يكن إكباراً وإجلالاً للإمام الجواد مطلقاً، بقدر ما كان محاولة مضمرة من المأمون لاحتواء الامام الجواد والتشيع بشكل كامل، ربما على المدى البعيد، فبعد أن ثبتت علمية الإمام الجواد، وتمت مراسيم زواج الإمام من ابنة المأمون، سُئل عن سبب إصراره على تحقيق هذه المصاهرة، فقال "إني أحببت أن أكون جدّاً لمرء وَلَده رسول الله، صلى الله عليه وآله، وعلي بن أبي طالب"! (الامام محمد الجواد- الشيخ محمد حسن آل ياسين)، بيد إن مشيئة السماء غير ما أراد المأمون، فقد خاب فأله، و بقيت ابنته (أم الفضل) عقيم دون سائر نساء الإمام، لاسيما زوجته أم الامام الهادي، عليه السلام، ثم كانت ضغينة هذه البنت من الاسباب المتراكمة المؤدية لاغتيال الامام الجواد، عليه السلام.
وبذلك يذهب كل ما انفقه المأمون وبذله من أموال ومجوهرات وهدايا في زفاف ابنته لتسويقها ضمن خطته المرسومة، وما بذله من إقناع للأسرة العباسية بالموافقة على هذا الزواج، كلها أدراج الرياح، لأن الإمام الجواد مع أقليته في الأمة تمكن بعلميته وأخلاقه وذكائه الاجتماعي أن يقلب الخطة رأساً على عقب، ويستوعب هو السلطة العباسية برمتها، ويشق طريقاً لأهل بيت رسول الله في ضمير الأمة بوجود ابنه الامام علي الهادي، فقد مات المأمون وظهر الامام الهادي نجماً ساطعاً في الساحة.
الضربة القاضية والردّ الجبان
مات المأمون وخلفه أخاه المعتصم الذي فعل ما سبقه عليه الماضون من الحكام المضطربون على كرسي الحكم، بأن استدعى الامام الجواد الى بغداد، مركز "الخلافة" وهو كاره لها لتفضيله مدينة جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، بيد إن الإلحاح والإصرار المشوب بالاستفزاز دفع الإمام للاستجابة، وربما كان الإمام على علم بأن خروجه هذه المرة هي الأخيرة في حياته، لذا "خلّف في المدينة ابنه علي الهادي، عليه السلام، وهو يومذاك صغير السن فإعطاه المواريث والسلاح ونصّ عليه بمشهد ثقاقته وأصحابه، وكأن نفسه قد حدثته بأنه لن يعود الى المدينة من هذه الرحلة".
وفي بغداد حصل أن ألقي القبض على سارق، فجيء به الى المعتصم بمحضر من الفقهاء والعلماء ليروا رأيهم في طريقة إجراء الحد الشرعي عليه، وربما لعدم وقوع السرقة من قبل في المجتمع الاسلامية آنذاك، لم يكن الجواب حاضراً، او الحكم الشرعي واضحاً ودقيقاً، لذا حصل اللغط والخلاف بين الفقهاء، فقال ابن ابي داوود السجستاني، وكان من كبار القضاة: من الكرسوع، فطلب المعتصم الدليل: فأجاب هذا القاضي: لأن اليد هي الأصابع والكف الى الكرسوع، لقول الله التيمم: {وامسحوا بوجوهكم وأيديكم}، واتفق معه نفرٌ من الحاضرين، فيما قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق لقوله تعالى: {وأيديكم الى المرافق}، فالتفت المعتصم الى الامام الجواد، وكان جالساً يتابع بصمت ما يجري، فطلب منه الإدلاء برأيه، فحاول الاعتذار تحاشياً لإحراج الغالبية من فقهاء البلاط، ولكن أمام إصرار المعتصم، أجاب الامام بأنهم "اخطأوا فيه السنّة، فان القطع يجب أن يكون من مفصل الاصابع، فيترك الكف، لقوله تعالى: {إن المساجد لله}، وقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: "السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فاذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وما كان لله لا يُقطع".
هذا الجواب المفحم والمتكامل نزل كالصاعقة على رؤوس أشباه العلماء، فيما أعجب المعتصم به أشد الاعجاب وأمر بتنفيذ الحكم وفق ما أفتى به الامام الجواد، عليه السلام.
لم ينته الأمر في هذا المجلس، فقد أضمر السجستاني وسائر الأشباه الحقد والضغينة للإمام، عليه السلام، وحاولوا الوقيعة بينه وبين المعتصم، فجاءت محاولاتهم بنتيجة عندما حذروه بفقدان الأكثرية بين الامة عندما يُذاع صيت الإمام، وأنه الأفقه والأعلم، ثم الأحق بالخلافة والقيادة، مما يهدد شرعية الدولة العباسية برمتها، ولا حلّ سوى اغتيال الإمام وتصفيته جسدياً من الساحة، وهو ما حصل من خلال زوجته، وهي ابنة أخ المعتصم التي وجدتها فرصة للتعبير بصوت عالٍ عن غيضها وحقدها على الامام الجواد، بالاستجابة لطلب وضع السمّ في طعامه.
وحسب المصادر فانه، عليه السلام، كان في سطح داره عندما تناول العنب المسموم، وكان يتأوه من الألم وتلك المرأة الشقيّة تنظر اليه وتمنع الخدم من الاقتراب منه او مساعدته، فبقي على هذه الحالة ثلاثة ايام فوق سطح داره وقد ارتفعت روحه الطاهرة الى بارئها، ليكون الامام الثالث الذي يستشهد بهذه الطريقة، بعد الامام الحسين الذي بقي جثمانه الطاهر ثلاث ايام على أرض كربلاء، والامام الكاظم الذي وضعت جنازته ثلاث ايام فوق جسر بغداد.
ومضى الامام الجواد شهيداً وشاهداً على الأكثرية المُضلّلة من الامة التي فقدت إمامها الشاب اليافع والبارع في علمه وأخلاقه دون أن تستنير بضيائه وتستفيد من سيرته المحمدية.
اضف تعليق