إنها شيمة الضعفاء من الحكام الطغاة، فكيف لهم السيطرة على شخص يسكن قلوب الملايين، وهم بحاجة الى هذه القلوب، يسعون جاهدين لإرضائها وطمأنتها بالمال و وسائل اخرى لضمان وجودهم في كرسي الحكم؟ لم يسمح المأمون العباسي أن يمتلك الامام الرضا بيتاً خاصاً له في أي منطقة يشاء...
خمسة وثلاثون عاماً قضاها في كنف والده الإمام الكاظم، عليه السلام، و بين أوساط المجتمع في مدينة جدّه؛ المدينة المنورة، ينشر العلم والمعرفة، و ايضاً؛ ما ورثه من أخلاق وآداب وفضائل آبائه المعصومين، فكانت الفترة الطويلة هذه كافية لأن يؤسس خلالها قاعدة جماهيرية تقوم على الإيمان والحب، وكيف لا؛ وهو "اذا خلا، جمع حشمه كلهم عنده؛ الصغير والكبير، فيحدثهم ويأنس بهم و يُؤنسهم، وكان، عليه السلام، اذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً ولا كبيراً، حتى السائس والحجّام إلا أقعده معه على مائدته".
وهو في مجلس حاشد بمدينة جدّه، وقد اجتمع لديه خلقٌ كثير يسألونه عن أحكام دينهم ودنياهم، إذ دخل رجل من خراسان، سلّم على الامام وقال: يا ابن رسول الله، رجلٌ من محبيك، ومحبي آبائك وأجدادك، مصدري من الحج، وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهض الى بلدي، ولله عليّ نعمة فاذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك، فلست بموضع صدقة.
فقال له الإمام: اجلس رحمك الله.
فقام الى حجرة له، وأغلق الباب قليلاً، وأخرج يده من أعلى الباب وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنا ذا، فقال له الامام: خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مئونتك ونفقتك وتبرك بها، ولا تصدق بها عنّي و اخرج فلا أراك ولا تراني.
فسأله من كان قريباً منه: جعلت فداك، لقد أجزلت و رحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟
قال، عليه السلام: مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته.
محاولات الحاكم الخائبة
المأمون العباسي المعتدّ بفطنته ودرايته بالأمور السياسية والاجتماعية، وما يزال البعض مأخوذاً –للأسف- بهذه الشخصية المزيفة، تصور أن القاعدة الجماهيرية للإمام الرضا مقتصرة على المدينة (الحجاز) والكوفة (العراق)، وفي مدينة قم فقط، لذا أمر بأن تكون قافلة الامام القادمة اليه عنوةً تتخذ طريقاً بعيداً عن هذه الامصار، وإن بعدت المسافة، فكانت المسيرة باتجاه البصرة ثم الاهواز، ثم فارس، ومنها الى مرو حيث مركز حكم المأمون، ولكن خاب ظنه، "فكان الناس في الطرق المؤدية الى خراسان عندما يعلمون بأن الامام الرضا سيمرّ عليهم، يخرجون لاستقباله، عليه السلام، ليتشرفوا بلقائه ويستفيدوا من علومه، و ليروي لهم بعض أحاديث رسول الله، صلى الله عليه وآله". (من حياة الامام الرضا- المرجع الديني السيد محمد الشيرازي).
ومن نافلة الحديث عن سيرة حياة الامام الرضا في ذكرى مولده السعيد هذه الايام، استذكار واقعة صلاة العيد التي طلب المأمون من الامام أن يؤديها بالناس منطلقاً من نفس الجانب العاطفي الذي دفعه لإجراء تلك المناظرة مع زعماء الاديان والمذاهب، يريد بذلك إصابة عصفورين بحجر واحد؛ أن يضفي المزيد من الشرعية لحكمه من خلال التفاف الناس حول ولي عهده، والامر الآخر الذي طالما حرص على توظيفه؛ الإيحاء بأنه مُحب لأهل بيت رسول الله، وتحديداً؛ البيت العلوي بخلاف ما كان عليه أسلافه العباسيون، فلم يجنِ سوى الخيبة، والصدمة عندما تبين للناس أعلمية وأحقية الإمام الرضا في قيادة الأمة.
وربما كان الإمام الرضا مدركاً لوجود هذا الفايروس في قلب المأمون فحاول الاعتذار عن إمامة الناس في صلاة العيد، ولكن إصرار المأمون كان أكثر بأن "أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية هذا فتطمئن قلوبهم ويقروا بما فضلك الله تعالى به".
فلم يجد الامام بُداً من الخروج، ولكن شرط عليه شرطاً بأن "أخرج كما كان يخرج رسول الله، وأمير المؤمنين"، فقال له المأمون، أخرج كما تحب، ثم أمر قادة الجُند، والناس أن يبكروا مع الإمام صبيحة يوم العيد.
يقول الرواة؛ ما أن طلعت الشمس على الناس وهم في الطرقات وعلى السطوح، اجتمع خلقٌ كثير فيهم العسكر وعامة الناس، فخرج الامام الرضا بعد أن اغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها الى صدره وطرفاً بين كتفه وتشمّر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازة وخرج والناس بين يديه وهو حافٍ قد شمّر سراويله الى نصف الساق وعليه ثياب مشمّرة، فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه الى السماء وكبّر أربع تكبيرات، فخيّل الينا أن السماء والأرض والحيطان تجاوبه.
كانت التكبيرات تواكب خطوات الامام الرضا باتجاه مكان الصلاة، والناس من خلفه بالآلاف يكبرون، ثم علت منهم أصوات البكاء والنحيب تفاعلاً مع هذا المشهد الروحاني العظيم، حتى ورد في التاريخ أن مدينة مرو، عاصمة الدولة العباسية آنذاك كانت تهتزّ من أصوات البكاء والضجيج المتصاعد من الجموع الزاحفة خلف الامام الرضا.
هذا المنظر المهيب لفت نظر الفضل بن سهل، الوزير المقرّب و المتنفذ لدى المأمون، فنصحه بأن ينهى الامام عن هذه الصلاة "فاذا بلغ الرضا المُصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس فالرأي أن تسأله أن يرجع".
هذا القرار كان متوقعاً جداً عند الإمام الرضا، فما أن بلغته رسالة المأمون حتى دعا بخفّه فلبسه وعاد الى بيته دون أن يسأل او يتكلم بشيء وسط ذهول واستفهام الجموع من هذا القرار السياسي المفاجئ.
القسوة سلاح الضعيف
إنها شيمة الضعفاء من الحكام الطغاة، فكيف لهم السيطرة على شخص يسكن قلوب الملايين، وهم بحاجة الى هذه القلوب، يسعون جاهدين لإرضائها وطمأنتها بالمال و وسائل اخرى لضمان وجودهم في كرسي الحكم؟
لم يسمح المأمون العباسي أن يمتلك الامام الرضا بيتاً خاصاً له في أي منطقة يشاء من مرو، لئلا يكون بين الناس و افراد الأمة، إنما جعله ضمن القصور الملكية (الرئاسية) بزعمه أنه يكرمه أمام أنظار الناس، بيد إن هذا البيت كان مزروعاً بالجواسيس والعيون التي تراقب حركات الامام ولقاءاته بأتباعه، وما يدور بينه وبين شيعته.
ليس هذا فقط، بل كان "محل إقامة الامام يتعرض بين فترة واخرى للتفتيش"، وهذا ما كان يقوم به المأمون بنفسه من خلال باب من قصره فتحه بأمر منه تؤدي الى بيت الإمام مباشرة، فكان يقتحم بيت الإمام دون إذن منه ليرى ما يقوم به الإمام، عليه السلام.
يقول أحد الرواة من اتباع الإمام الرضا، عليه السلام: "بينا نحن عنده يوماً إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون الى دار أبي الحسن، عليه السلام، فقال لنا: قوموا وتفرقوا، فقمنا عنه"، وهذا دليل واضح على عمق الخوف والفزع العباسي المتأصّل فيهم من الأئمة الاطهار وما لهم من قدرات وامكانات حقيقية على الأرض بأن يزلزلوها تحت اقدامهم في أي لحظة تكون القاعدة الجماهيرية في حالة تأهّب وتفاعل، فالأئمة المعصومون يملكون القلوب و ايضاً الاجسام احياناً، بينما هم (الحكام) لا يملكون سوى الاجسام على طول الخط.
اضف تعليق