فرجُل الدَّولة يحظر في ذهنهِ دائماً مفهُوم الأَولويَّات العامَّة التي تخصُّ الأُمَّة، أَمَّا رجُل السُّلطة فمسكُونٌ بمفهومِ الإِستغلالِ السيِّء للظُّروف من أَجلِ تحقيقِ أَولويَّاتهِ فقط. وهكذا كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فعلى الرَّغمِ مِن كُلِّ الظُّلم الذي لحِقَ بهِ جرَّاء إِزاحتهِ عن الخلافةِ التي كانَت من حقِّهِ بكُلِّ المقاييس...
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.
سُجِنَ مظلوماً، وهوَ في السِّجن إِحتاجهُ النَّاس بسببِ أَزمةٍ إِقتصاديَّةٍ خانقةٍ كادت تقضي على الزَّرعِ والضَّرع.
كانت بالنِّسبةِ لهُ فُرصةً لينتقِمَ ممَّن ظلمهُ، فلا يجيبهُم على شيءٍ ولا يهديهِم لطريقِ الخَلاص ولا يُشير عليهِم بأَحسنِ ما عندهُ أَو ينطِقَ بكلمةٍ قبلَ أَن يُطلقُوا سراحهُ مثلاً ويعتذرُونَ منهُ!.
لم يفعل يوسُف الصدِّيق (ع) كُلَّ هذا، فلقد عضَّ على الجُرح وتجاوزَ الظُّلم الذي تعرَّضَ لهُ شخصيَّاً من أَجلِ الصَّالحِ العام فالوقتُ لم يكُن وقتَ انتقامٍ أَو مُقايضةٍ، فالأُمَّة تمرُّ في ظرفٍ إِقتصاديٍّ وماليٍّ خطيرٍ قد تهلك بسببهِ، والمَوقف يتطَّلب تضافُر الجهُود لإِنقاذِ المَوقف وعبُور المِحنة الشَّاملة، وكُلُّ من سعتهِ، ومِن يوسف الصدِّيق فُتيا تفسيرِ الرُّؤيا.
وهذا ما كان، فلم يتأَخَّر بالإِدلاءِ بدَلوه الذي كانَ خارِطة طريق حل إِستراتيجي، فلقد فسَّرَ لهُم الرُّؤيا على عجلٍ ليُساهمَ في إِنقاذِ المَوقف من دونِ أَن ينتظرَ ليقبِضَ الثَّمن مثلاً أَو أَن يُقايض علمهِ بقرارٍ يتَّخِذهُ الملك لإِطلاقِ سراحهِ من السِّجنِ أَوَّلاً.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
إِتَّضحَ، إِذن، أَنَّها لم تكُن {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ}!.
وهذا هوَ الفارِقُ بينَ رجُل الدَّولة الذي يشعُر بالمسؤُوليَّة عن الرعيَّة حتَّى إِذا كانَ مظلُوماً أَو مسجُوناً مازالَ قادِرٌ على الخدمةِ ولَو برأيٍ! وبينَ رجُل السُّلطة الذي يُقايض كُلَّ شيءٍ من أَجلِ تحقيقِ مصالحهِ الخاصَّة والضيِّقة ويستغل كُلَّ ظرفٍ من أَجلِ أَن يُوسِّعَ من سلطتهِ خاصَّةً في وقتِ الأَزمات عندما يضطرُّ الآخر تقديم التَّنازُل مِن أَجلِ تجاوُز مِحنة! ولَو أَمكنَهُ صنعَ أَزمة ليعتاشَ عليها!.
فرجُل الدَّولة يحظر في ذهنهِ دائماً مفهُوم الأَولويَّات العامَّة التي تخصُّ الأُمَّة، أَمَّا رجُل السُّلطة فمسكُونٌ بمفهومِ الإِستغلالِ السيِّء للظُّروف من أَجلِ تحقيقِ أَولويَّاتهِ فقط.
وهكذا كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فعلى الرَّغمِ مِن كُلِّ الظُّلم الذي لحِقَ بهِ جرَّاء إِزاحتهِ عن الخلافةِ التي كانَت من حقِّهِ بكُلِّ المقاييس كما يصفها بقَولهِ {لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَوَ اللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ وَزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ} وقولُهُ {فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ}.
على الرَّغمِ مِن كُلِّ ذلكَ إِلَّا أَنَّهُ لم يُفكِّر قطُّ في توظيفِ مظلوميَّتهِ لابتزازِ الأُمَّة أَو [جِهاز الحُكم] عندما مرُّوا بأَزمةٍ خطيرةٍ وخانِقةٍ لم يكُن لها إِلَّا أَبا الحسَن (ع).
تعالُوا نقرأ النَّص التَّالي الذي يشرحُ فيهِ الإِمام (ع) قصَّة أَوَّل إِنقلاب في تاريخِ الأُمَّة وكيفَ تعاملَ معهُ بمسؤُوليَّة مِن دونِ أَن يدَع لمظلُوميَّتهِ أَن تُسيطر على أَو تتحكَّم بقراراتهِ الإِستراتيجيَّة المصيريَّة، لنتعلَّمَ منهُ كيفَ نتعامل معَ الأَزماتِ بمفهُومِ الأَولويَّات وليسَ بمفهُومِ التَّربُّص والإِنتقام والإِبتزاز، بوعِي رجُل الدَّولة وليسَ بعقليَّةِ رجُل السُّلطة.
يقولُ (ع) {فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ}.
وعندما يستشيرهُ [خليفة] كانَ (ع) يُشيرُ عليهِ بأَفضلِ الرَّأي وأَحسنهِ فلا يوفِّر شيئاً ينفعُ الأُمَّة، لأَنَّهُ لم يكُن ينظُر إِلى الأُمور من زاويةٍ خاصَّةٍ وضيِّقةٍ وإِنَّما كانَ ينظرُ لها مِن أَوسعِ المنافذِ.
فمثلاً عندما استشارهُ الخليفة الثَّاني بالخرُوجِ بنفسهِ لقتالِ الفُرس، لم يفكِّر الإِمام (ع) باستغلالِ الفُرصةِ السَّانحةِ وتشجيعهِ للخرُوجِ بنفسهِ على رأسِ الجيش ليخلُو الجَو للإِمام فينفِّذ مثلاً عمليَّةً إِنقلابيَّةً تحمِلهُ للسُّلطةِ، أَبداً، وإِنَّما كانَ جوابهُ للخليفةِ خارِطةَ طريقٍ لبناءِ الهيكليَّةِ الإِداريَّةِ السَّليمةِ للدَّولةِ {إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَلَا بِقِلَّةٍ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَأَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَطَلَعَ حَيْثُ طَلَعَ وَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ وَمَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلَامِ عَزِيزُونَ بِالِاجْتِمَاعِ فَكُنْ قُطْباً وَاسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ وَأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ وَطَمَعِهِمْ فِيكَ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ وَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وَإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ}.
وفي هذا الجَواب حدَّدَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فلسفة السُّلطة وهرميَّتها من النَّاحيةِ الإِداريَّة، ليسَ لتعليمِ الخليفةِ وإِنَّما لكُلِّ مَن يسعى لبناءِ الدَّولة على أُسُسِ هرميَّةٍ إِداريَّةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ.
اضف تعليق