ولو قدر للإمام أن يطبق سياسته هذه بتفاصيلها، ويمثل منهجه بمفرداته كافة، لانتقل بالإسلام والمسلمين إلى عالم رحيب أوسع، رأيت فيه من الخير العميم ما يذهل العقول، ولكن الإمام غلب على أمره بالفتن والمحن، كما غلب على رأيه بالمعارضة الجافة، حتى قيل أن علياً لا علم له بالحرب...
بقلم: الدكتور محمد حسين علي الصّغير
ولم تكن تطلعات الإمام القيادية تنحصر في تدبير الجيوش، وإعداد البعوث، وإدارة دفة الحكم، وتعاهد الولاة والعمال، ولكنه كان إلى جنب ذلك معنيّاً عناية خاصة بتهذيب النفس الإنسانية، وإصلاح الذات عند المسلمين، باعتبارهما النواة في خلق جيل جديد يواكب النهج الإسلامي الجديد في صقل الطباع وتيقظ الضمائر.
تسلم عليٌّ (عليه السلام) الحكم فواجهته أحداث كبار جرّت إلى حروب كبار أيضاً، فقد بُليَ بجبروت الناكثين، وتهور المارقين، وطغيان القاسطين، فعالج ذلك بما رأيت وقرأت.
ودهمته الأثرة وحب الشهوات، وتطاول الناس بما فيهم الصحابة أو بعض الصحابة وقسط من أبناء المهاجرين والأنصار إلى المناصب الرفيعة والولايات الفارهة، فولّى من له أهلية الحكم، وعزل من لا يستقيم معه أمر الدين، وفجأه إنحراف السلوك الوظيفي للفرد فأراد تقويمه والعودة به إلى الحضيرة الإسلامية، وهذا يعني بذل الجهد الإضافي الحثيث ليعادل التوازن، ويعالج تدهور الأولاع والرغبات كما يقول علماء النفس.
فينتزع حب المال من النفوس، وشهوة الحكم لدى الطالبين، والتقوقع على الذات عند السواد. فقد بُلي الإمام بطبقة من الناس تستهويها شهرة الأسماء ـ مضافاً إلى ما تقدم ـ دون النظر في حقائق الأشياء، وكان هذ الابتلاء يستوي به عليّة القوم، وضعفة الرجال، وأقرب الناس إليه، وأبعدهم عنه.
فهذا محمد ابن الحنفية وهو ابنه، وهو في الذروة من الورع والحيطة، قد يستعظم منزلة الزبير، وسابقة طلحة، وأمومة عائشة، فتمتلكه الحيرة حيناً، ويذهب به التساؤل حيناً آخر، فيجبهه الإمام ببديهة صارمة تصادر الحيرة، وتجيب عن التساؤل، ويقول له:
«يا بني إنك ملبوس عليك، لا يعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله».
وكتب إليه عامله على المدينة سهل بن حنيف يخبره أن طائفة من أبنائها يرغبون عنه، ويتسللون إلى الشام سراً أو علناً، فكتب إليه الإمام يعزيه عن هؤلاء، وينهاه عن إرغامهم على الطاعة، وترك الحرية لهم في التنقل حيث شاؤوا فهم أصحاب دنيا، لا أصحاب دين.
ويخلص إليه أهل السواد ويقصدون الكوفة في شؤونهم؛ فيخلو الإمام إلى رجل من أهل الرساتيق ويسأله عن حال قومه:
« أخبرني عن ملوك فارس كم كانوا؟ ».
فيجيبه الفارسي:
« كانت ملوكهم في هذه المملكة الآخرة اثنين وثلاثين ملكاً ».
ويريد الإمام أن يقول كلمته لهذا المجتمع الغارق بأحلامه العابرة، فيسأله:
« فكيف كانت سيرتهم؟ » فيقول الفارسي:
«ما زالت سيرتهم في عظم أمرهم واحدة، حتى ملكنا كسرى بن هرمز، فأستأثر بالمال والأعمال، وخالف أولينا، وأخرب الذي للناس، وعمّر الذي له، واستخفّ بالناس، فأوغر نفوس فارس، وثاروا عليه فقتلوه».
فقال الإمام (عليه السلام)، وهو يعني ما يقول:
«إن الله عز وجل خلق الخلق بالحق، ولا يرضى من أحد إلا بالحق، وفي سلطان الله تذكرة مما خوّل الله».
وعناية الإمام في هذا الجانب تدعوه أن يذكّر الناس بالآخرة، وطالما فعل ذلك، وتدعوه أيضاً إلى تزهيدهم بالدنيا، وطالما فعل ذلك أيضاً، فهو يخطب بالناس في أكثر من موضع وموضع مؤكداً هذا الملحظ للعودة بالناس إلى الدين، فقد قال في جملة ما قال من خطبة له:
«أخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل ان تخرج منها أبدانكم، ففيها أختبرتم، ولغيرها خلقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك؟ وقالت الملائكة ما قدّم».
ولكن القوم قد تمكنت منهم الدنيا، فعليّ (عليه السلام) يريد أن يدّبر أمر الدين، وهم يريدون أن يدبروا أمر الدنيا، فهما مختلفان. جاءه عبد الله بن زمعة يستميحه عطاءً إضافياً من بيت المال، فنهره بقوله:
«هذا المال ليس لي، ولا لك، إنما هو فيء المسلمين، وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم».
وكان عليّ (عليه السلام) يطبق هنا التوجيه بسيرة عملية صارمة، عزف فيها عن السرف، وجنح فيها إلى الزهد حتى توجه إلى من أراد أن يلتزم سيرته هذه، فقال له: « إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره ».
ويلحظه أحدهم وهو يرتعد برداً في قطيفة سملة ويقول للإمام: «يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، ثم أنت تفعل هذا بنفسك؟».
فيقول الإمام:
«ما أرزأكم شيئاً. وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة».
وهذا أخوه عقيل بن أبي طالب، يستميحه شيئاً فوق نصيبه من بيت المال، فيقول له الإمام: « إذا خرج عطائي فهو لك ». فقال عقيل: « وما يبلغ مني عطاؤك ».
فأسرَّها الإمام في نفسه، ولقنه درساً بليغاً، ليتعظ غيره بذلك، فأحمى حديدة قربها منه فضجّ عقيل منها، فقال الإمام:
«ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه، أتئن من أذى، ولا أئن من لظى».
وبلغه أن قاضيه شريح بن الحارث قد اشترى لنفسه داراً، فأراد استيقان الخبر، حتى إذا صدق استدعى شريحاً ووعظه قائلا: «بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين ديناراً، وكتبت كتاباً وأشهدت فيه شهوداً ». فقال شريح: « لقد كان ذلك يا أمير المؤمنين ».
فنظر إليه الإمام نظرة اقتلعته من مكانه، وقال له:
يا شريح: أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة».
وكان منهج الإمام هذا حرياً بأن يصلح شيئاً من النفوس، أو يخفف من غلوائها في الأقل من التهافت على الدنيا، والانغماس بمباهجها، ولكن هذا النهج أيضاً قد يرضي قوماً، وقد يسخط آخرين، قد يجمع حوله القليل، وقد ينفضّ عنه الكثير، وقد أدرك الإمام هذا الملحظ إدراكاً عميقاً، فقال: «لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرعاً».
ولم يكن الإمام لتعجزه الحيلة في تحقيق المأرب وإدارة الحكم كما يديره غيره من الساسة، ولكنه يعرض عن ذلك صفحاً، وينأى عنه جانباً إذ التمس كل ذلك من الطريق المستقيم الذي استنه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وهذه الإستقامة عند الإمام هي التي ذهبت به كل مذهب في الصرامة، غير متهاود فيها، ولا متهاون عنها، حتى قال: « الضعيف الذليل عندي قويٌ حتى آخذ الحق له، والقوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ الحق منه ».
ولو قدر للإمام أن يطبق سياسته هذه بتفاصيلها، ويمثل منهجه بمفرداته كافة، لانتقل بالإسلام والمسلمين إلى عالم رحيب أوسع، رأيت فيه من الخير العميم ما يذهل العقول، ولكن الإمام غلب على أمره بالفتن والمحن، كما غلب على رأيه بالمعارضة الجافة، حتى قيل أن علياً لا علم له بالحرب، ولا صبر له على القتال، وشواهد العيان تأبى ذلك، ودلائل الحدثان تنفي هذا الزعم المتهافت.
وهو بأزاء هذا السبيل ينادي أؤلئك:
« ويلكم أتتوقعون اماماً غيري يطأ بكم الطريق »؟
وحتى صرح غير مرة:
« لقد ملئتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً ».
وحتى التفت إلى أهل الكوفة قائلاً: « وددت أن معاوية صارفني فيكم صرف الدينار بالدرهم، فأعطاني واحداً وأخذ مني عشرة، أمير أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، وأميركم يطيع الله وأنتم تعصونه ».
لقد أفسدوا على الإمام رأيه بالعصيان، حتى فقدوا مصداقية الإمتثال له، وحتى طمع فيهم معاوية وجردّهم عن كل شيء، وقادهم بل ساقهم بين يديه سوق الأماء، حتى قيل أن معاوية أدهى من علي، وبلغه ذلك فقال:
« والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، وكل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، وكل كفرة في النار ».
وكان الإمام (عليه السلام) عازماً على تنقية الطباع وترويض الغرائز، وكانت الأطماع تمتلك النفوس، وكان التآمر المتتابع يحبك الدسائس لإفشال الإمام بمسيرته، وإسقاط النظام في تطلعاته الإنسانية المتألقة، فعليٌ (عليه السلام) كان يدبر أمر الدين بقوة وعزيمة، وأعداؤه يدبرون أمر الدنيا بنهم وجشع، وكان أمر الدين قد تضاءل، وأمر الدنيا قد أقبل، وكانت القلّة من المؤمنين أنصاراً للإمام في إقام الدين، وكانت الكثرة
من أعوان معاوية عضده في بناء الدنيا، والناس بعامة أبناء الدنيا، ولا يلام المرء في حب أمه، فتطاول الباطل على الحق حقبة قيادة الإمام للأمة، وكان ظل الحق يكاد ينحسر، وكان شبح الباطل قد أظل، فشرق الإمام بغصته لهذه الظاهرة الشاذة، فالباطل لا يدوم ولو دام دمّر، وقد استدام معاكساً لمسيرة الإمام، ومضاداً لثورة الإمام، فأورث ذلك المسلمين ندماً مريراً، وأورث الإسلام تعثراً مريعاً، حتى ظن بالإمام الجزع حين قال: « متى ينطلق أشقاها فيخضب هذه من هذا ».
مشيراً إلى كريمته ورأسه...
وظاهرة أخرى كانت تقلق الإمام وتزيد من آلامه، فهو يرى البعوث قد تعثرت، والفتوح قد توقفت، ومسلمة الفتوح بعد كمسلمة الفتح من ذي قبل، لا يعرفون من الإسلام إلا إسمه، ولا يعون من الفرائض إلا طقوسها، ولا يدركون من القرآن إلا قداسته، كثرة كاثرة بلا جدوى، وأمم دخلت في الإسلام على غرّة، وتزايد نظري في أعداد المسلمين، دون تطبيق عملي لمبادئ الإسلام، ومتى استطاع الإمام أن يفرغ من إصلاح الداخل، حتى يتفرغ لإصلاح الخارج، وهو يرى جمهرة من المسلمين، قد استهوتهم حياة الترف عند الفرس، وحياة الإستهتار عند الروم، فتزودوا ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، واستلذوا بالقصور الشامخة والمراكب الفارهة، وغضوا طرفاً عن المصلحة العليا، وتأقلموا بحياة لم يألفوها من ذي قبل، وتطلعوا إلى أجواء ما عرفوها في تأريخهم القريب، فانتقلت نفوس العرب من الحمية والنضال إلى الدعة والعيش الرغيد، وبدأ عليها التغيير إلى الأسوأ شيئاً فشيئاً، فضعف سلطان الدين، وقوي سلطان الدنيا، وعاد علي (عليه السلام) في الميدان بثلة من الأولين وقليل من الآخرين يحاولون ولا يستطيعون، ويناضلون فلا يبلغون، وقد تجاوز السيل الزبى.
ومما زاد في حراجة موقف الإمام أن أسلس معاوية القياد للهوى، وجدد لنفسه حياة تتلائم ومتطلبات النفوس الحالمة بالترف والمجون وأطايب النعم، فتأنق بالمأكل والمشرب وصف الألوان بما لا عهد للعرب فيه، وتزين بالحلل الثمينة متشبهاً بالروم والقياصرة، ونهب من مال الله ومال المسلمين ما أرضى به جشع أهل الدنيا، فصفت له الحياة، وخضعت له الأعناق. وكان علي (عليه السلام) يدير حكماً إسلامياً خالصاً، وكان معاوية يدير ملكاً هرقلياً، يتألف الرجال بالمال، ويبذر الفيء كما يشاء، ويزيد من الشهوات كما تتطلب النفوس، وعلي (عليه السلام) يقسم المال بالسوية، ويتحرج من أدنى شيء ورعاً، ويأخذ نفسه بشطف العيش، ونشأ جيل متمرد من أبناء المسلمين، فرأوا الحياة بمباهجها مع معاوية، واستفاق البداة فطلبوا الرفاهية عند معاوية، فمال هؤلاء وهؤلاء إلى معاوية، فاستقبلهم بالأحضان، يغري الأشراف، ويعتضد بالسواد، وعاد مغرب الدولة الإسلامية عند معاوية بهذه الصورة، وكان مشرق الدولة الإسلامية بيد علي (عليه السلام) لا يلين ولا يستلين، فأتسق لمعاوية ما أراد، وبُلي الإمام بتواكل أصحابه، وخذلان أهل العراق حتى ملهّم وملّوه، وحتى دعا ربّه تعالى أن يبدله خيراً منهم، وأن يبدلهم شراً منه، فأبدله الله خيراً، وأبدلهم شراً، وكانت المؤامرة الكبرى التي أطاحت بالإمام ونظام الإسلام معاً. تلك المؤامرة التي ساعد عليها الزمان والمكان، وتولى تنفيذها المخططون من وراء الحدود العراقية، وداخل الأراضي العراقية، حتى فجعت الأمة بأمثل قائد جسد سيرة النبي وقيادته.
اضف تعليق