طغيان العسكر التُرك، وتبديد ثروات المسلمين، وانتشار الفقر والحرمان في أرجاء الأمة أشعل فتيل ثورات وانتفاضات شعبية في أمصار مختلفة، في الوقت نفسه نبّه المسلمين الى شخصية الامام الهادي، عليه السلام، ومكانته العلمية والروحية، وكان يقيم في المدينة المنورة، فكانوا يقصدونه من كل مكان ينهلون من علومه ومعارفه...
اجتمعت كل علائم الضعف في الدولة العباسية في عهد الإمام الهادي، عليه السلام، عندما استولى القادة العسكريون من أصول تركية على القرار السياسي في الدولة بضوء أخضر من المعتصم العباسي الذي كان يميل اليهم متأثراً بأمه؛ الأمَة التركية المتميزة لدى أبوه هارون.
والى جانب عنصريته، كان جهله وتخلفه العلمي يغذي طغيانه وفساده وظلمه، فقد وصفه السيوطي في "تاريخ الخلفاء" بأنه كان يعاني صعوبة في القراءة والكتابة، وربما مردّ هذا الى كرهه للعربية أساساً، ولكل ما يمتّ بصلة الى العرب، فكان يضطهد العرب ويطردهم من البلاط في مقابل تقريبه للتُرك.
وعندما أحسّ خطورة وجود العسكر التُرك في بغداد بما فعلوه من ممارسات لا أخلاقية، واستخفاف بحرمات الناس في الشوارع والطرقات، واحتمال انفجار الموقف الجماهيري في العاصمة ضده، اتخذ قراراً يؤكد غبائه بنقله عاصمة الدولة العباسية برمتها الى مدينة سامراء، والتي لم تكن مدينة آنذاك من الناحية العمرانية كما كانت بغداد، إرضاءً لأحبائه التُرك، وربما توجساً منهم لئلا تتغوّل قوتهم وتجتمع كلمتهم عليه في مكان بعيد عن عيونه.
الإمام القائد وسط المجتمع
طغيان العسكر التُرك، وتبديد ثروات المسلمين، وانتشار الفقر والحرمان في أرجاء الأمة أشعل فتيل ثورات وانتفاضات شعبية في أمصار مختلفة، في الوقت نفسه نبّه المسلمين الى شخصية الامام الهادي، عليه السلام، ومكانته العلمية والروحية، وكان يقيم في المدينة المنورة، فكانوا يقصدونه من كل مكان ينهلون من علومه ومعارفه، بل كان علاقة أهل المدينة أنفسهم بالإمام "علاقة قوية ومميزة، فقد كان الإمام يشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، فيعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ويحضر مناسباتهم الاجتماعية، ويساعد الفقراء والمحتاجين منهم، ويهتم بشؤونهم، ولذلك أحبه الناس في المدينة كما أحبهم، والتفوا حوله، وصار صاحب تأثير كبير عليهم". (سيرة الإمام الهادي، دراسة تحليلية للسيرة الاخلاقية والعلمية والسياسية للإمام الهادي- الشيخ الدكتور عبد الله أحمد اليوسف).
وعي الناس ويقظتهم على وقع فضائح القصور، ومعرفتهم المتزايدة بأئمة أهل البيت، عليهم السلام، ومعرفة مكانتهم الحقيقية، حداهم لاتباع الامام الهادي، بنسبة عالية بعد مرارة العيش وضنك الحال الذي تجرعوه طيلة سنوات الحكم العباسي، وعندما نقرأ في التاريخ عن الوشاة الى المتوكل وغيره من الحكام العباسيين بأن الاموال تُحمل الى الإمام، وأنه يستعد للانقلاب عليه والسيطرة على الحكم، لم يكن من فراغ، بقدر ما كان يعبّر عن رؤية كونها المقربون من البلاط من واقع المجتمع وعلاقته بالإمام الهادي، عليه السلام، مما مكنّه من الاحتفاظ بمكسب "الدولة داخل الدولة" التي حققها على أرض الواقع السياسي؛ الامام الكاظم، عليه السلام، فتزايد انتشار أتباع أهل البيت في مؤسسات الدولة العباسية، وداخل البلاط العباسي.
تمثل كل هذا في ردود الفعل من قرار المتوكل إحضار الامام الهادي الى سامراء، إذ يقول المؤرخون أن حالة من القلق والاضطراب ساد الناس في المدينة لمعرفتهم ما يكنّه الحكام العباسيون من استدعاء أئمتهم من مدينة جدّهم، كما فعل هارون مع الامام الكاظم، والمأمون مع الامام الرضا، ومع الامام الجواد ايضاً.
و نُقل عن يحيى بن هرثمة الذي بعثه المتوكل لإحضار الامام الهادي من بغداد الى سامراء، بأن "لما دخلت المدينة ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي، عليه السلام، فجعلت أسكنهم وأحلف لهم، أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله، فلم أجد فيه إلا المصاحف وأدعية وكتب العلم"، في إشارة الى وشاية أحد وعاظ السلاطين الى المتوكل، ممن يستشعر الحقارة والدونية أمام قامة الامام الهادي، وكان يرجو لنفسه إمامة الجماعة في المدينة بدلاً عن الامام الهادي، فكتب للمتوكل –تقريراً- بأن الامام يجمع المال والسلاح للانقلاب عليك!
الإمام القائد حريصٌ على حياة الناس
الثورة على الظلم والطغيان، والقتال لإحياء العقيدة والفضيلة شيء، وأن تعيش الأمة الأمان والاستقرار شيء آخر، فالارواح تكون رخيصة في ثورة متكملة الشروط والمواصفات، كما فعل الإمام الحسين، عليه السلام، في معركة الطف بثلاث وسبعين رجلاً فقط، ولم يفعله الامام الصادق، عليه السلام، وقد بشروه بآلاف السيوف تحت إمرته لقيادة الانقلاب على الحكم الأموي والصعود الى قمة الحكم، لمعرفته بأنها ليست معركته، ولا معركة المؤمنين الواعين بما يُدار خلف الستار على مر العصور.
كانت الوشايات والتقارير السرية تترى على المتوكل باستعداد الإمام الهادي للانقلاب على الحكم بما تصله من أموال من مواليه في الأمصار المختلفة، منها ما أوصله أحد الجواسيس الى المتوكل قافلة قادمة من مدينة قم متوجهة الى سامراء مع تحديد الزمان والمكان، فأمر الاخير أحد قادة جيشه بالاستعداد للانقضاض على القافلة، فبينما القافلة في طريقها الى سامراء إذ وصل رسول الإمام اليها أن "ارجعوا فليس هذا وقت الوصول"، فعاد أتباع الامام أدراجهم الى قم سالمين، وخاب فأل المتوكل وأنصاره باستطاعتهم الفتك بالمؤمنين.
هكذا كان الامام الهادي يمارس دوره القيادي للأمة، وهكذا فهم افراد الأمة، من الجدير بالقيادة، الإمام المُحب للناس والحريص على حياتهم وكرامتهم وحقوقهم، أم الحاكم الحريص على ملذاته ومصالحه الخاصة وتحقيق ما يريد حتى وإن بإزهاق الأرواح وانتهاك حقوق الملايين.
اضف تعليق