عندما نتحدث بالاقتداء بالعظماء والناجحين ليس بالضرورة ان نكون نسخة منهم، او نسترجع أزمانهم وظروفهم، فهذا ليس من المنطق والعقل، إنما نستفيد من تجاربهم، ونتأسّى بهم، فالزمان والظروف تتغير، ولكن السلوك والثقافة والفكر أمور مرتكزة على قواعد ثابتة من القيم والمبادئ...
"عبدي أطعني أجعلك مثلي أنا أقول للشيء كن فيكون، أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كُن فيكون".
كلمة الله- آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي
كم تبذل المرأة اليوم من الجهود الذهنية والعضلية لتثبت وجودها في الحياة على أنها قادرة على القيام بأعمال كبيرة وناجحة! وكم هي المسافة قليلة بينها وبين الخلود والعظمة والنجاح!
من سوء حظ انسان العصر الحديث أنه يتكبّد تكاليف باهظة لأشياء وأمور بالإمكان تحاشيها وتحقيق المطلوب بأقل التكاليف، فمن يريد الحفاظ على صحة وسلامة بدنه عليه دفع الاموال الطائلة على العلاج والفحوصات والمكملات الغذائية والتمارين البدنية والمنظفات والمعقمات وما الى ذلك، أما اذا أراد شعب بكامله الحصول على بحبوحة من العيش ونسبة من الرخاء الاقتصادي، فعليه تحمل تكاليف خيالية؛ من ضرائب، وآثار مباشرة للفوائد على الديون العالمية، وسلسلة طويلة من الاجراءات الحكومية والقوانين المعقدة، فضلاً عن التخلّي عن قيم أخلاقية وانسانية والتأقلم مع ظواهر مرضية مثل الكآبة والعقد النفسية، كل ذلك؛ من أجل ان يكون لديه المال الكافي لتوفير بيت لعائلته، وشراء سيارة، و ربما دراجة نارية، مع بعض السيولة النقدية تكفيه لاسبوع كامل، او شهر، او سنة.
والمرأة "العصرية" من جملة أولئك الذين يسددون تكاليف غريبة لتحقيق أمور هي في متناول يديها! ولعل أهم ما تفكر به المرأة أن تكون مكرمة ومحترمة داخل الأٍسرة وفي محيطها الاجتماعي، وقد أكد هذه الحقيقة؛ رسول الله، صلى الله عليه وآله، في وصف المرأة الناجحة بأن "خير نسائكم العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها" و الذليلة؛ كناية عن الطاعة والاستجابة للزوج، إنما يحتاج الأمر الى قليل من الالتفات، مع إرادة وصبر، لتحصل المرأة على ما تريد بأقلّ التكاليف.
في مختبر الإيمان
فاطمة بنت حزام الكلابية، كأي فتاة عربية في المدينة كان لها مشاعر ورغبات بني جنسها، بيد أنها تميزت عنهنّ بكرم الأصل، وطيب المنبت، أهّلها لأن تكون محل إشارة عقيل بن أبي طالب، النسّابة المعروف بين العرب، الى أخيه أمير المؤمنين، وقد لفت الباحثون طلب أمير المؤمنين من أخيه بأن "انظر الى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً"، ألم يكن، عليه السلام، عالماً بأحوال الناس وسرائرهم وأصولهم؟ لماذا استعان بأخيه؟
طريقة أمير المؤمنين في تربية الطليعة المؤمنة والشريحة الواعية تبين نية الإمام لإظهار شأن هذه السيدة الجليلة وهي فتاة في بيت أبيها، فهو بالتأكيد أعرف من أخيه بأحوال العرب، و أي أسرة ذات أصول كريمة أو لئيمة، أو من يتحلون بالشجاعة والكرم، او بالجُبن والنفاق، فقد خَبر المجتمع العربي منذ مرافقته النبي الأكرم طيلة ثلاثة وعشرين سنة في مكة والمدينة، كما فعل مع محمد أبي بكر، الذي قال عنه: "محمد ابني من صُلب أبي بكر"، و ميثم التمار الذي أشتراه عبداً ثم حوله الى أحد قادة المسيرة الرسالية.
هذا من أمير المؤمنين، أما الخطوة الثانية كانت من شخص فاطمة (أم البنين) لتجرّب بنجاح إيمانها ويقينها بالمنهج الذي ستعيش عليه في بيتها الجديد، فتفوّق الإيمان على الرغبات والشهوات والنزعات النفسية الكامنة في كل انسان، وتحديداً النساء، وأبرزها حبّ الذات، والتملّك، كان محور سيرة أم البنين، وحسناً قال أحد علماء الدين بأننا "نتعلم حبّ الحسين من أم البنين"، فهي لم تكن زوجة أب فقط، وإنما كانت قبل هذا تلميذة في بيت الرسالة، تكتسب فيه العلوم والمعارف والآداب والأحكام، ومنذ الأيام الاولى من ولادة ابنها البكر؛ العباس، كانت تختبر باستمرار ايمانها بأهل بيت رسول الله، وأنهم أولياء الله في الأرض، مفترضي الطاعة، وأن مرافقتهم تعني السعادة في الدنيا والآخرة، فمن الطبيعي أن يغلب هذا الايمان مشاعر الأمومة الطبيعية، وهو اختبار ليس بالهيّن، كونه يمثل معاكسة لحالة نفسية أودعها الله في نفس كل أم عاقلة، كما أودع الله الشهوة الجنسية لدى الرجال، تبقى فرصة التطويع بالاتجاه المطلوب، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا((.
هنا تحولت أم البنين الى مصداق عملي للحديث القدسي الذي يصدرنا بها المقال، فقد أكرم الله –تعالى- هذه السيدة المتمحضة بالإيمان والطاعة، بأن عوضها بدل مشاعرها الجريحة إزاء ابنائها في واقعة الطف، بكرامات جزيلة، حولتها الى مصدر توسّل الملايين في العالم لقضاء الحوائج، مع يقين عميق لدى المؤمنين بسرعة الاستجابة بجاه هذه السيدة العظيمة.
أم البنين يمكن أن تتكرر
مسألة القدوة مثار نقاش في إمكانيتها عندما يكون الاقتداء بالنظير في الصفات والحالات، ولذا يستصعب البعض الاقتداء بالأئمة الاثني عشر، وايضاً بالرسول الأكرم، والصديقة الزهراء، كونهم معصومين من الخطأ، ولهم منزلة وشأن خاص ليس للآخرين، بينما القرآن الكريم ينفي هذا التصور مؤكداً امكانية الاقتداء بأن {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وقبلها فان الله –تعالى- بين من علل اختيار الانبياء والمرسلين بأنهم {منكم}، وآيات أخرى تبين حقيقة أن الانبياء المرسلين من السماء إنما هم بشر، لهم مشاعرهم وحاجاتهم الطبيعية، ما عدا علاقتهم بالسماء وبعض الخصائص الروحية مثل التقوى والورع، بينما أم البنين، تختصر علينا المسافة في المنزلة الروحية، والجهد في التشبّه والتطابق، فهذه السيدة العظيمة حجة علينا جميعاً، لاسيما النساء، في المسيرة الناجحة نحو التكامل والتهذيب من كونها فتاة عادية بين مئات الفتيات في محيطها الاجتماعي آنذاك، الى أن تحولت الى أم البنين ذات الموقف الخالد في واقعة كربلاء، عندما سجّلها التاريخ، كما ثبتها أهل بيت رسول الله، من بين المضحين بين يدي الامام الحسين، عليه السلام.
هنا ثمة سؤال:
أين يمكن ان نرى أم البنين ثانية؟
عندما نتحدث بالاقتداء بالعظماء والناجحين ليس بالضرورة ان نكون نسخة منهم، او نسترجع أزمانهم وظروفهم، فهذا ليس من المنطق والعقل، إنما نستفيد من تجاربهم، ونتأسّى بهم، فالزمان والظروف تتغير، ولكن السلوك والثقافة والفكر أمور مرتكزة على قواعد ثابتة من القيم والمبادئ، فإيمان أم البنين، ليس بالضرورة يكون في ساحة المعركة، مضمخاً بالدماء، ربما يكون في محيط الأسرة، وفي العلاقة مع الزوج والأولاد، أو في محيط العمل، فكلما علت درجة الايمان بالله، شعرت المرأة بالسعادة والرضى والاطمئنان بما لديها في الحياة، والأهم من هذا؛ الشعور بالتفوق في درجة الالتزام بالأحكام الدينية والقيم الاخلاقية، فتصبح ممارسة بديهية كأي عمل يومي تقوم به.
اضف تعليق