وتلقّى الرسول الأمر بأهمّية بالغة، فانبرى بعزم ثابت وإرادة صلبة لتنفيذ أمر الله تعالى، فوضع أعباء المسير، وحطّ رحله في رمضاء الهجير وأمر قوافل الحجّ أن تحطّ رحالها، وكان الوقت قاسيا في حرارته، فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتّقي به من الحرّ. واجتمع الحجّاج...
وبعد ما أدّى النبيّ (صلى الله عليه وآله) الحجّ إلى بيت الله الحرام ووضع الخطط السليمة لصيانة امّته من الزيغ قفل راجعا إلى يثرب، وحينما اجتاز موكبه في غدير خمّ هبط عليه جبرئيل وهو يحمل رسالة من الله تعالى بالغة الخطورة تتعلّق بمصير الامّة الإسلامية ومستقبلها الحضاري، فقد أمره الله تعالى أن يحطّ رحله في ذلك المكان لينصّب الإمام عليّا (عليه السلام) خليفة من بعده ويقلّده المرجعية العامّة، ولم يرخّصه في التأخير قيد لحظة واحدة، وكان أمر السماء بهذه الآية: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...) (1).
ونصّ الرواة على أنّها نزلت في غدير خمّ (2)، وطابع هذه الآية الإنذار الشديد، فالنبيّ إن لم يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه في تقليد الإمام لمنصب الخلافة فقد ضاعت جهوده وتبدّدت أتعابه.
وتلقّى الرسول (صلى الله عليه وآله) الأمر بأهمّية بالغة، فانبرى بعزم ثابت وإرادة صلبة لتنفيذ أمر الله تعالى، فوضع أعباء المسير، وحطّ رحله في رمضاء الهجير وأمر قوافل الحجّ أن تحطّ رحالها، وكان الوقت قاسيا في حرارته، فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتّقي به من الحرّ.
واجتمع الحجّاج فصلّى بهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبعد ما فرغ من الصلاة أمر بوضع حدائج الإبل لتكون منبرا له، فصنعوا له ذلك، فاعتلى عليها، وكان عدد الحاضرين مائة ألف أو يزيدون، وأقبلت الجماهير بقلوبها نحو النبيّ، فخطب فيهم معلنا ما عاناه من الجهود الشاقّة في سبيل الإسلام، وما كانوا فيه من الضلال والحياة البائسة فأنقذهم منها، ثمّ ذكر كوكبة من أحكام الإسلام وتعاليمه، ثمّ التفت إليهم قائلا:
« انظروا كيف تخلفوني في الثّقلين؟ ».
فناده مناد من القوم:
ما الثقلان يا رسول الله؟
وعرض عليهم أمر الثقلين قائلا:
« الثّقل الأكبر: كتاب الله طرف بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم فتمسّكوا به ولا تضلّوا، والآخر الأصغر: عترتي، وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك ربّي لهما، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا... ».
ووضع النبيّ (صلى الله عليه وآله) بذلك المناهج السليمة لسلامة امّته من الضلال والانحراف عن طريق الحقّ، ثمّ أخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيد وصيّه وسيّد عترته وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ففرض ولايته على المسلمين، وأقامه علما لهدايتهم، فرفعها حتى بان بياض إبطيهما، ورفع صوته عاليا قائلا:
« أيّها النّاس، من أولى النّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟ ».
فأجابوا جميعا:
الله ورسوله أعلم..
فقال (صلى الله عليه وآله):
« إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه »، قال ذلك ثلاث مرّات، ثمّ قال:
« اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب... ».
وبذلك أنهى خطابه الشريف الذي أدّى فيه رسالة ربّه، فنصب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة من بعده، وأثبت له الولاية الكبرى على عموم المسلمين كما كانت له (صلى الله عليه وآله) الولاية العامّة على جميع المسلمين.
البيعة العامّة للإمام:
وأقبل المسلمون يبايعون الإمام بولاية العهد ويهنّئونه بإمرة المسلمين، وأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمّهات المؤمنين بمبايعته (3)، وأقبل عمر بن الخطّاب فهنّأ الإمام وصافحه وقال له مقالته المشهورة:
هنيئا يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (4).
وانبرى حسان بن ثابت فنظم هذه الحادثة الخالدة بقوله:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم
بخمّ وأسمع بالرسول مناديا
فقال فمن مولاكم ونبيّكم
فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا
ولم تلق منّا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليّ فإنّني
رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّه
فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللهمّ وال وليّه
وكن للذي عادى عليّا معاديا (5)
وقال الشاعر الملهم السيّد الحميري:
وقام محمّد بغدير خمّ
فنادى معلنا صوتا نديّا
لمن وافاه من عرب وعجم
وحفّوا حول دوحته جثيّا
ألا من كنت مولاه فهذا
له مولى وكان به حفيّا
وقال شاعر الإسلام الكميت الأسدي:
ويوم الدوح دوح غدير خمّ
أبان له الولاية لو أطيعا
ولكنّ الرجال تبايعوها
فلم أر مثلها حقّا أضيعا
وسجّل المحقّق الأميني في الغدير كوكبة من الشعراء الذين نظموا حادثة الغدير من عصر النبوّة حتى يوم الناس هذا.
نزول آية إكمال الدين:
وفي ذلك اليوم الخالد في دنيا الإسلام نزلت هذه الآية الكريمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (6).
لقد كمل الدين، وتمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية إمام المتّقين وسيّد الموحّدين، وبقيادته الروحية والزمنية على جميع المؤمنين.
لقد وضع النبيّ (صلى الله عليه وآله) المنهج السليم لصيانة امّته وجمع كلمتها وتوحيد صفوفها، ولم يترك الأمر من بعده فوضى يتلاعب فيه الطامعون وعشاق الملك والسلطان، فقد سدّ الباب ولم يترك أي منفذ يسلك منه، فقد عيّن القائد والموجّه لأمّته في جميع شئونها ولم يهمل هذا الأمر الحسّاس ـ كما يقولون ـ.
وعلى أي حال فموضوع الغدير جزء من رسالة الإسلام وركن من أركان الدين، فمن أنكره فقد أنكر الإسلام كما يقول الشيخ العلائلي.
اضف تعليق