إن الحرب النفسية التي شنها هارون العباسي على الامام الكاظم في بغداد باءت بالفشل عندما هبّت جموع الناس الى جنازة الإمام الكاظم بعد أن تركت على الجسر ثلاثة أيام في محاولة من هارون بالتنصّل عن مسؤولية استشهاده مسموماً، بعد أن سمعوا النداء...
"هذا موسى بن جعفر الذي تقول الرافضة أنه لا يموت فانظروا اليه".
بهذا الهتاف طاف عناصر هارون العباسي بجنازة الإمام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، في شوارع بغداد بأوامر مباشرة من القصر في إشارة للناس بأن من شأن الشيعة التعكّز على الغيبيات والافكار غير الواقعية، وأنهم يتمثلون بحال النبي عيسى مريم الذي رفعه الله –تعالى- اليه وأنه لم يمت البتة، بينما واضح موقف الإمام الكاظم والتشيع ايضاً من فرقة "الواقفية" الذين وقفوا على الامام الكاظم، ولم يؤمنوا بوجود الإمام الرضا من بعده، ولا بالأئمة الآخرين، عليهم السلام.
الى جانب هذه الفريّة، كانت السلطة العباسية تبحث في كل الاتجاهات لتوجيه سهام الحرب النفسية باتجاه الامام الكاظم، والتشيع بشكل عام الذي كان يمثل الاسلام الحقيقي الممتد الى عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهي الحقيقة التي طالما قضّت مضاجع العباسيين، فمن نظرة تاريخية شاملة لتلك الفترة نجد أن آثار الأئمة المعصومين، وتحديداً فترة الإمام الصادق وابنه الامام الكاظم، عليهما السلام، واضحة في حياة الأمة في انتشار العلوم والمعارف والآداب والتديّن وكل القيم الانسانية والاخلاقية، بينما للعباسيين بصمات الدم والغدر وكل اشكال الانحراف والموبقات على خارطة الدولة الاسلامية آنذاك.
هذا الواقع جعل عهد الامام الكاظم من القوة والنفوذ أن يشكل "دولة داخل دولة، حتى أن كثيراً من أعوان هارون و وزرائه كانوا من أصحاب الامام الكاظم، وكان كل ذلك يجري وفق تنظيم دقيق وسرية تامة"، ولم تشفع لهارون عيونه وجواسيسه وأمواله وشرائه للذمم للسيطرة على الرأي العام المعارض لحكمه نظراً للقاعدة الثقافية والفكرية الغنية التي تركها الامام الصادق للأمة بتربية قامات سامية من العلم والمعرفة جابوا الديار والامصار مثل؛ هشام بن الحكم، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن منهج التخصص، وكيف أن الامام الصادق حدد لكل دوره لتربية المجتمع الاسلامي وإغنائه بمختلف العلوم والمعارف بما يتيسّر الاستيعاب لانسان ذلك الزمان، فكان الناس يشهدون بانفسهم عطاءات هؤلاء العلماء الافذاذ في الكلام (الفلسفة) والعقائد والفقه وحتى العلوم الطبيعية مثل؛ الفلك والكيمياء والهندسة.
من خلال قراءتنا لسيرة حياة الامام الكاظم، عليه السلام، نلاحظ اسلوبين من جملة اساليب اتبعها هارون العباسي لمواجهة "المد الرسالي" المتمثل بجبهة الامام، عليه السلام، في الامة، فقد أخفق في قرابته الثانوية لرسول الله، بعد فضحه من قبل الامام الكاظم، وأنه أقرب منه، وأنه، عليه السلام، ابنٌ لرسول الله، بدليل الآية الكريمة التي ذكرت اسم عيسى بن مريم مع سائر الانبياء في سلسلة نسبية، وبين الإمام أن ارتباط عيسى بالانبياء من قبله من ناحية أمه مريم التي هي سليلة الانبياء، كما انه يعجز عن إظهار نموذج للنظام الاسلامي في الحياة، لانه؛ وسائر العباسيين لا شأن لهم بهذا مطلقاً، لذا نراه يتعكّز على الميوعة القاتلة للعقل في الشعر وفي الطرب.
الترويج لـ"الأدب المشكوف"
هكذا عبّر الباحث والمحقق الشيخ محمد باقر شريف القرشي في كتابه "حياة الامام موسى بن جعفر- دراسة وتحليل) عما آل اليه الأدب العربي في عهد هارون العباسي تحديداً عندما أغدق الاموال الطائلة على الشعراء المتزلفين لاغراق الثقافة العامة بالميوعة والتحلل وتحفيز الشهوات والغرائز، وهو ما لم يسبقه حاكم من قبل، وبما أن الشعر كان يمثل وسيلة الاعلام الوحيدة في ذلك الزمان بيد أن شريحة من الشعراء لم يكن "شعرهم يصور جدّاً ولا نشاطاً في الحياة العامة، ولا يصور أي واقع للحياة الفكرية، انما كان شعرهم في وصف العقار والقيان والبعث الى اللذة والشهوات"، حتى أن الشيخ القرشي كتب أن "ابو نؤاس كان يقدس الخمر في شعره"!
والى جانب المهمة المعروفة لمعظم شعراء التزلّف في تلك الحقبة في مدح وتبييض وجوه الحكام، فان الغاية الأهم؛ التغطية على نفحات الشعر الرسالي المتألق في نفس تلك الفترة من قامات أدبية مثل السيد الحميري الذي عاصر الامام الكاظم، عليه السلام، والمعروف بشدّة إيمانه وولائه لأهل بيت رسول الله، ودفاعه المدهش عنهم في المحافل والدواوين، وهو الشاعر المصقع الذي بلغت شهرته الآفاق، تكفيه العينية المجلجلة المشحونة بالشجن والألم لمصاب أهل البيت، وايضاً باللوم والتقريع لمن شارك في ظلمهم وانتهاك حرمتهم وسفك دمائهم، وجاء في الروايات أن الامام الرضا، عليه السلام، رأي في المنام جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، وكان الى جانبه السيد الحميري، فطلب منه أن ينشد الأبيات:
لأم عمرو باللوى مربعُ
طامسةٌ أعلامهُ بلقعُ
تروح عنه الطير وحشية
والأسدُ من خيفته تفزعُ
برسم دار ما بها مونسٌ
إلا صلال في الثرى وقّعُ
رقش يخاف الموت نفثاتها
والسمّ في أنيابها منقعُ
لما وقفن العيس في رسمها
والعين من عرفانه تدمعُ
ذكرت من قد كنت ألهو به
فبت والقلب شجً موجعُ
الى آخر الأبيات الشجيّة التي أبكت النبي الأكرم، وعندما بلغ هذا البيت:
قالوا له: لو شئت أعلمتنا
إلى من الغايةُ والمفزعُ
قال النبي، صلى الله عليه وآله: " إلهي! أنت الشاهد عليّ وعليهم أنّي أعلمتُهم والمفزع عَلِي ُّبن أبي طالب"، أدب كهذا، ورسائل بليغة تخترق القلوب والنفوس لا يسع حاكم مثل هارون مطبق على الاموال والملذات والشهوات أن يواجهها باسلوب مماثل، فكان من الصعب عليه إعمال السيف في الشعراء حتى لا يثير الناس عليه.
هذه الابيات، وغيرها من السيد الحميري، وايضاً شعر الكميت وغيرهما من الشعراء الرساليين كانت تتسلل الى بيوت البغداديين، ويتداولها الكثير من سكان العاصمة، لاسيما الموالون والمتعاطفون لأهل البيت، عليهم السلام، لذا كان هارون يسعى لافراغ النفوس من أية ميول او حب لأهل بيت رسول الله، وملؤها بالطرب والغناء والشعر المائع.
أفيون الطرب والغناء
تسرّب الغناء والطرب والخلاعة والخمور من غرف هارون وقصوره الى البيوت والبساتين في بغداد، و"سادت الميوعة وأسرف الناس في الخلاعة والمجون وقد شجعهم على ذلك مليكهم هارون فقد رأوه انه لم يفارق الملذات والغناء"، (الشيخ القرشي)، وقد انتشرت في بغداد اماكن الطرب والغناء، واندفعت الجواري والإماء الى هذه المهنة، فكثرت المغنيات وارتفع سعر الجواري الأكثر مهارة في الغناء والطرب، والغاية من كل هذا إشغال الناس عن هموم المعيشة والمصير، وتخديرهم وقتل ورح الوعي في نفوسهم، فقد أكدت المصادر التاريخية أن عهد الرشيد الذي وصفه بعض مؤرخي السلطة بـ "العصر الذهبي" كان وبالاً ونقمة عليهم لما خلقه لهم من شظف العيش والحرمان والفقر، بينما كان أكداس الذهب والفضة والمجوهرات تنساب على القصور العباسية، وفي كتابه، قدّر الشيخ القرشي ما يرد في خزينة الدولة الاسلامية في عهد هارون اكثر من ملياري دولار، وهو تقدير للمؤلف في كتابه الصادر في ستينات القرن الماضي، بمعنى أنه يقدر اليوم باكثر من عشرين مليار دولار، مع تعداد نفوس المسلمين آنذاك الذي ربما يكونون في نطاق احدى الدول الاسلامية الصغيرة حالياً.
بهذا السياسة حاول هارون ايجاد سد حائل بين المسلمين وبين ثقافتهم والتزاماتهم، وليبقى الدين مجرد طقوس ومظاهر قشرية، فالجميع كان يصلي ويصوم ويذهب الى الحج، وكان هو في مقدمتهم، بيد أن إسلام الامام الكاظم، هو إسلام رسول الله، الهادي الى آفاق التفكّر، وعمق الإيمان، والعمل الصالح، ولذا أجاب الامام الكاظم هارون ذات مرة بأنك انت الذي تبايعك الناس سراً؟! فقال له: "انا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم".
وهذا تحديداً ما كان يقض مضاجع هارون؛ العمل الخفي والهادئ للإمام، عليه السلام، بعيداً عن الضجيج والهتافات والشعارات الواعدة، عملٌ يرمي الى البناء الذاتي، وإصلاح المجتمع جذرياً، فلم تفلح الحرب النفسية لهارون ولا لغيره من الحكام في تغيير مسار الحركة الرسالية للأئمة المعصومين، فهي حركة في هدوئها وكتمانها لا تنطوي على تناقضات ومغالطات كما هو حال الحكم العباسي، بل وكثير من الحركات والتيارات التي ظهرت في الامة.
ثم إن الامام الكاظم، عليه السلام، واجه هذا اللون من المواجهة بما هو أمضى وأشدّ، فقد حارب السلطة العباسية بسلاح العبادة ليكشف للناس من سكنة بغداد وسائر المسلمين في كل مكان بأن هويتهم العقدية، ليس فقط حضور المساجد وصيام شهر رمضان والذهاب الى مكة المكرمة، وإنما الإيمان بالله –تعالى- وبكتابه، وبيوم الحساب، وضرورة توثيق عرى الاتصال بالله بالصلاة والدعاء والاستغفار لطلب الرحمة والمغفرة.
لم يكن الامام الكاظم يتكلم بشيء داخل السجن، كأن يخاطب أحداً، او يطلب شيئاً ما، حتى من باب الإرشاد والوعظ والتهديد وغيرها، وإنما كان من يشرف على معتقله من رجال السلطة يراه ساجداً، ومنهم هارون نفسه، حتى كان يخال اليهم بأن ثمة قطعة قماش مرمية على الارض، لطول سجوده، عليه السلام.
ومن أروع ما فعله الامام الكاظم داخل السجن، تحويله جارية حسناء توهمت السلطة انها تتمكن من تغيير سلوك الامام، ولو للحظة، فقد جاء في التاريخ أن هارون أرسل جارية للإمام "وكانت جميلة ووضاءة لتخدمه في السجن، فقال الامام لمن أتى بها: قل له: {بل أنتم بهديتكم تفرحون}، لا حاجة لي في هذه، ولا في أمثالها، قال الراوي: فاستطار هارون غضباً وقال: ارجع اليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك اخذناك واترك الجارية عنده وانصرف، قال فمضى ورجع ثم قام هارون من مجلسه وانفذ الخادم اليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول: قدوس سبحانك سبحانك، وتستغفر الله، فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره".
وقبل ان اختم هذه القراءة اليسيرة في جانب من سيرة الامام الكاظم، أجدني ملزماً بملحوظة ضمن سياق الحرب النفسية التي تناولناها وهي أن المؤمنين في الوقت الحاضر ينسبون ألقاباً وكنى للإمام الكاظم، منها؛ "الراهب"، او "راهب آل محمد"، وسنعرف أنها من الترويج العباسي عندما نقرأ في صفحات التاريخ أن اول من قالها: هارون العباسي عندما أشرف على سجن الإمام ووجده ساجداً لفترة طويلة قال: "أما ان هذا من رهبان بني هاشم"، إذ لا رهبانية في الاسلام، وقالها رسول الله، صلى الله عليه وآله في ردّه على من حاول التنسّك والتعبّد منقطعاً عن الحياة وما فيها، بأن "رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله".
كان الامام الكاظم يعيش في أوساط المجتمع الاسلامي مذ كان في مدينة جدّه رسول الله، وقبل ان يجبره هارون العباسي على مغادرتها الى بغداد، وإن كان كذلك في سيرة حياته لما خشي منه هارون على حكمه وعلى قناعه الديني المزيف، بل العكس؛ لكان ذلك مدعاة للاحتفاء به، كما يتعامل الحكام والساسة مع هذا النوع من الشخصيات الدينية، بينما كان الإمام الكاظم، كما هي سيرة أمير المؤمنين، ورسول الله، ينظرون الى أدنى القوم حالاً، وينصحون الأوفر مالاً، ويدعون الى حياة هانئة للمسلمين جميعاً.
إن الحرب النفسية التي شنها هارون العباسي على الامام الكاظم في بغداد باءت بالفشل عندما هبّت جموع الناس الى جنازة الإمام الكاظم بعد أن تركت على الجسر ثلاثة أيام في محاولة من هارون بالتنصّل عن مسؤولية استشهاده مسموماً، بعد أن سمعوا النداء: "ألا من أراد الطيب ابن الطيب فليخرج الى جنازة موسى بن جعفر"، تقول المصادر أن أعداداً غفيرة من أهالي بغداد خرجوا لتشييع الامام الكاظم الى مقابر قريش حيث هو اليوم محط أنظار العالم، ومهوى أفئدة المؤمنين يزورونه على مدى أيام السنة، ليبقى كظمه للغيظ من ألمع صفاته الاخلاقية التي واجه بها أعدائه فلا يسعهم سوى الانحناء أمامه على مر الزمان.
اضف تعليق